اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰقَوۡمِ لَكُمُ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ ظَٰهِرِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأۡسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَاۚ قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ} (29)

قوله : { ياقوم لَكُمُ الملك اليوم } اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب{[48126]} الذي توعّدهم به في قوله { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقَهَرْتُمُوهُمْ فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلَّ بكم ، وإنما قال «يَنْصُرُنَا وَجَاءَنَا » ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه{[48127]} .

قوله «ظَاهِرينَ » حال من الضمير «لكم » والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به «لكم »{[48128]} .

ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى } هي من رؤية الاعتقاد{[48129]} فيتعدى لمفعولين ثانيهما : «إلاَّ مَا أرَى » أي إلا ما أرى لنفسي{[48130]} . وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم{[48131]} . قوله { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } العامة على تخفيف الشين ، مصدر رَشَدَ يَرْشُدُ . وقرِأ معاذ بن جبل بتشديدها{[48132]} ، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة ، نحو ضَرَبَ فهو ضَرَّاب{[48133]} ، وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من{[48134]} الرباعي يعني أرشد ، ورد على النحاس قوله : بأنه يحتمل أن يكون من «رشد » الثلاثي ، وهو الظاهر{[48135]} ، وقد جاء فعال أيضاً من أفعل وإن كان لا ينقاس ، قالوا : أدْرَكَ فَهُوَ دَرَّاك وأجْبَرَ فهو جَبَّار ، وأَقْصَرَ فهو قَصَّار ، وأَسْأرَ{[48136]} فهو سَئَّار . ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذاً كان يفسرها بسبيل الله .

قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه وهل كان فرعون يدعي إلا الإلَهيَّةَ ؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب{[48137]} . قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنهن كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله{[48138]} .

وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة{[48139]} صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في «الرَّشَادِ » الذي هو في كلام فرعون كما توهموا ، وإنما هو في «الرَّشَادِ » الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك{[48140]} . ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني{[48141]} بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ ( بن جبل ) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك ، وجبار من مجبر ، وقصَّار من مقصِر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً . فعلى هذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير{[48142]} . وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من «أَرْشَدَ » الرباعي ، أو«رَشَدَ » الثلاثي ، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول{[48143]} .


[48126]:في ب: العذاب بدل العقاب.
[48127]:التفسير الكبير للرازي 27/58، 59.
[48128]:وهو "الملك" وانظر الإعراب في التبيان 1118.
[48129]:أي الرواية العلمية التي تحتاج مفعولين.
[48130]:المرجع السابق.
[48131]:نقله البغوي 6/94.
[48132]:شاذة غير متواترة ذكرها العكبري في التبيان 1118 والكشاف 3/425 والمختصر لابن خالويه 132، والمحتسب لابن جني 2/241 و242.
[48133]:المراجع السابقة.
[48134]:إعراب القرآن له 4/34 بدون تعليق.
[48135]:قال أبو الفتح بن جني في المحتسب المرجع السابق وينبغي أن يكون هذا من قولهم رشد يرشد كعلام من علم يعلم، أو من رشد يرشد كعباد من عبد يعبد ولا ينبغي أن يحمل على أنه من أرشد يرشد لأن فعالا لم يأت إلا في حروف محفوظة.
[48136]:أي أبقى في الكأس بقية وقد ذكر هذه الألفاظ ابن جني في محتسبه المرجع السابق 2/241 و242، والزمخشري في الكشاف 3/425 والسمين في الدر 4/691 وابن خالويه في حجة القراءات السبع ذكر ثلاثة فقط دراك وقصار وسآر، الحجة له 315.
[48137]:البحر المحيط 7/462.
[48138]:الدر المصون 4/691.
[48139]:هو أبو القاسم الهذلي صاحب القراءات الخمسين الكتاب الشهير وقد مر ترجمته وانظر البحر 7/462 والكشف 4/425 والكامل في القراءات الخمسين (خ) 2/ق 234 ب وفيه الرشاد بتشديد الشين الحسن والباقون بتخفيف الشين، والأحسن التشديد يعني الله فهم قد فهموا من خلال تلك الآية فهما ناقص المعنى والمقام وإنما ما قالوه في الآية الآتية كما أوضع المؤلف أعلى تبعا لأبي حيان ومن حذا حذوه.
[48140]:وهي "وقال الذي آمن قوم اتبعوه أهدكم سبيل الرشاد" الآية 38 من نفس السورة.
[48141]:يقصد الشين.
[48142]:انظر البحر المحيط 7/462 والدر المصون 4/691.
[48143]:بالمعنى من التبيان 118 وقد جعله اسما للمصدر فقال: "الجمهور على التخفيف وهو اسم للمصدر، إما الرشد أو الإرشاد".