معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

قوله عز وجل :{ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية } يعني : اذكر لهم شبهاً مثل حالهم من قصة أصحاب القرية وهي أنطاكية ، { إذ جاءها المرسلون } يعني ، رسل عيسى عليه الصلاة والسلام . قال العلماء بأخبار الأنبياء : بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنمات له وهو حبيب النجار ، صاحب يس فسلما عليه ، فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن ، فقال : أمعكما آية ، قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، فقال الشيخ : إن لي ابناً مريضاً منذ سنين ، قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله ، فأتى بهما إلى منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً ، ففشا الخبر في المدينة ، وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى ، وكان لهم ملك قال وهب : اسمه انطيخس وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام ، قالوا : فانتهى الخبر إليه فدعاهما ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى ، قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر ، فقال لهما : ألنا إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك . قال : قوما حتى أنظر في أمركما ، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق . وقال وهب : بعث عيسى هذين الرجلين إلى أنطاكية ، فأتياها فلم يصلا إلى ملكها ، وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكروا الله ، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائتي جلدة ، قالوا : فلما كذب الرسولان وضربا ، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما ، فدخل شمعون البلد متنكراً ، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به ، فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك ، فهل كلمتهما ؟ وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما ، فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، فقال لهما شمعون : فصفاه وأوجزا ، فقالا إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فقال شمعون : وما آيتكما ؟ قالا : ما تتمناه ، فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة ، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين ، فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما ، فتعجب الملك ، فقال شمعون للملك : إن أنت سألت إلهك حتى تصنع صنعاً مثل هذا فيكون لك الشرف ولآلهك . فقال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيراً ، ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم ، فقال الملك للمرسلين : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما ؟ قالا : إلهنا قادر على كل شيء ، فقال الملك : إن هاهنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن دهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه ، وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانيةً ، وجعل شمعون يدعو ربه سراً ، فقام الميت ، وقال : إني قدمت منذ سبعة أيام ووجدت مشركاً فأدخلت في سبعة أودية من النار ، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله ، ثم قال : فتحت لي أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة ، قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال : شمعون وهذان ؟ وأشار إلى صاحبيه ، فتعجب الملك ، لما علم ، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ، ودعاه إلى الإسلام فآمن الملك وآمن قوم كثير ، وكفر آخرون . وقيل : إن ابنةً للملك كانت قد توفيت ودفنت ، فقال شمعون للملك : اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك ، فطلب منهما الملك ذلك فقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما في السر ، فأحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت ، وقالت : أسلموا فإنهما صادقان ، قالت : ولا أظنكم تسلمون ، ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا تراباً على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت . وقال ابن اسحاق عن كعب ووهب : بل كفر الملك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً ، وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين .

فذلك قوله تعالى : { أرسلنا إليهم اثنين } وقال وهب : اسمهما يوحنا وبولس ، { فكذبوهما فعززنا } يعني : فقوينا ، { بثالث } برسول ثالث وهو شمعون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم : ( ( فعززنا ) ) بالتخفيف وهو بمعنى الأول كقولك : شددنا وشددنا ، بالتخفيف والتثقيل ، وقيل : فغلبناهم من قولهم : من عز بز . وقال كعب : الرسول : صادق وصدوق ، والثالث شلوم ، وإنما أضاف الله الإرسال إليه لأن عيسى إنما بعثهم بأمره تعالى ، { فقالوا } جميعاً لأهل أنطاكية . { إنا إليكم مرسلون* }

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي : قويناهما بثالث ، فصاروا ثلاثة رسل ، اعتناء من اللّه بهم ، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم ، { فَقَالُوا } لهم : { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

الضرب للمثل مأخوذ من الضريب الذي هو الشبه في النوع ، كما تقول هذا ضرب هذا ، واختلف هل يتعدى فعل ضرب المثل إلى مفعولين أو إلى واحد ، فمن قال إنه يتعدى إلى مفعولين جعل هذه الآية { مثلاً } و { أصحاب } مفعولين لقوله { اضرب } ، ومن قال إنه يتعدى إلى مفعول واحد جعله { مثلاً } وجعل { أصحاب } بدلاً منه ، ويجوز أن يكون المفعول { أصحاب } ويكون قوله { مثلاً } نصب على الحال ، أي في حال تمثيل منك ، و { القرية } على ما روي عن ابن عباس والزهري وعكرمة أنطاكية ، واختلف المفسرون في «المرسلين » فقال قتادة وغيره : كانوا من الحواريين الذين بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه شبهه ، فافترق الحواريون في الآفاق فقص الله تعالى هنا قصة الذين نهضوا إلى أنطاكية ، وقالت فرقة : هؤلاء أنبياء من قبل الله تعالى .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يرجحه قول الكفرة { ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنها محاورة إنما تقال لمن ادعى الرسالة عن الله تعالى والآخر محتمل ، وذكر النقاش في قصص هذه الآية شيئاً يطول والصحة فيه غير متيقنة فاختصرته ، واللازم من الآية أن الله تعالى بعث إليها رسولين فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله تعالى وحده ، وإلى الهدى والإيمان فكذبوهما فشدد الله تعالى أمرهما بثالث وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في آخر أمره ، وكفروا فأصابتهم صيحة من السماء فخمدوا ، وقرأ جمهور القراء «فعزّزنا » بشد الزاي الأولى على معنى قوينا وشددنا ، وبهذا فسر مجاهد وغيره ، وقرأ عاصم في رواية المفضل عن أبي بكر «فعزَزنا » بالتخفيف في الزاي على معنى غلبناهم أمرهم{[1]} ، وفي حرف ابن مسعود «فعززنا بالثالث » بألف ولام .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُما فَعَزّزْنا بِثالِثٍ" يقول تعالى ذكره: حين أرسلنا إليهم اثنين يدعوانهم إلى الله فكذّبوهما فشددناهما بثالث، وقوّيناهما به... قال ابن زيد، في قوله: "فَعَزّزْنا بِثالِثٍ "قال: جعلناهم ثلاثة، قال: ذلك التعزّز، قال: والتعزّز: القوّة.

وقوله: "فَقالُوا إنّا إلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ" يقول: فقال المرسلون الثلاثة لأصحاب القرية: إنا إليكم أيها القومُ مرسلون، بأن تُخْلِصوا العبادة لله وحده، لا شريك له، وتتبرّؤوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان أعظم مقاصد السياق تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في توقفهم عن المبادرة إلى الإيمان به، مع دعائه بالكتاب الحكيم إلى الصراط المستقيم، وكان في المشاركة في المصائب أعظم تسلية، أبدل من قوله {إذ جاءها} تفصيلاً لذلك المجيء قوله، مسنداً إلى نفسه المقدس لكونه أعظم في التسلية: {إذ أرسلنا} أي على ما لنا من العظمة.

ولما كان المقصود بالرسالة أصحابها قال: {إليهم اثنين} أي ليعضد أحدهما الآخر فيكون أشد لأمرهما فأخبراهم بإرسالهما إليهم كأن قالا: نحن رسولان إليكم لتؤمنوا بالله {فكذبوهما} أي مع ما لهما من الآيات، لأنه من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، سواء كان عنا من غير واسطة أو كان بواسطة رسولنا، كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النور، لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون آية فكانت نوراً في جبهته، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.

ولما كان التضافر على الشيء أقوى لشأنه، وأعون على ما يراد منه، سبب عن ذلك قوله حاذفاً المفعول لفهمه من السياق، ولأن المقصود إظهار الاقتدار على إيقاع الفعل وتصريفه في كل ما أريد له: {فعززنا} أي فأوقعنا العزة، وهي القوة والشدة والغلبة، لأمرنا أو لرسولنا بسبب ما وقع لهما من الوهن بالتكذيب فحصل ما أردنا من العزة -بما أشارت إليه قراءة أبي بكر عن عاصم بالتخفيف.

{بثالث} أرسلناه بما أرسلناهما به {فقالوا} أي الثلاثة بعد أن أتوهم وظهر لهم إصرارهم على التكذيب، مؤكدين بحسب ما رأوا من تكذيبهم: {إنا إليكم} أي لا إلى غيركم {مرسلون}.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وتأكيد قولهم: {إنا إليكم مرسلون} لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيداً وسطاً، ويسمى هذا ضرباً طلبياً.

وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.