قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } بدل من «إذ » الأولى{[45808]} ، كأنه قال : اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين . قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن يكون «إذا » ظرفاً والفعل الواقع فيه «جَاءَها » ، أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ{[45809]} .
وإنما جاءوهم حيث أمروا . وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه ( الصلاة{[45810]} و ) السلام- أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى ( عليه{[45811]} السلام- ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } . ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل ( الأول ){[45812]} . وهذا على{[45813]} قولنا : «واضرب لهم مثلاً » ضرب المثل لأجل محمد - عليه الصلاة والسلام - ظاهر وقوله : «إذ أرسلنا إليهم اثنين » في بعثة{[45814]} الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما{[45815]} كانا مبعوثين{[45816]} من جهة عيسى عليه ( الصلاة{[45817]} و ) السلام- ( بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ){[45818]} فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً تامة{[45819]} .
قال ابن كثير : وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش ، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر ( ه ){[45820]} أنهم رسل الله - عز وجل - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان{[45821]} اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث بُولص{[45822]} والقرية أنطاكية . وهذا القول ضَعِيف جداً ؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية ، ثم بعدها قسطنطينية ، ولم يهلكوا ( إذ ){[45823]} أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ يس : 29 ] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل{[45824]} أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز . والله أعلم .
قوله : { فَعَزَّزْنَا } قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] ومنه قولهم : عَزَّ وبَزَّ{[45825]} أي صا له بَزّ .
والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا{[45826]} ، يقال : عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها ، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة . وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ{[45827]} . وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف{[45828]} أي فَقَوّيناهما ( أو فغلبناهما بثالث ){[45829]} ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق ، لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان .
وقرأ عبد الله{[45830]} «بالثُّالثِ » بألفٍ ولام{[45831]} .
قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون } جرد خبر «إنّ » هذه من لام التوكيد ، وأدخلها في خبر الثانية ، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهو الإتيان ب «إنَّ » وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم ( الرسل ) بزيادة التأكيد ، فأتوا ب «إنَّ » وب «اللاَّم » .
قال أهل البيان : الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ .
فالأول : ( يقال ){[45832]} لمن لم يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو : زَيْدٌ عَارَفٌ .
والثاني : لمن هو متردد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له : إنَّ زَيْداً عَارِفٌ .
والثالث : لمن يبالغ في إنكاره فيقال له : إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ{[45833]} . ومن أحسن ما يحكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس{[45834]} الكِنْديِّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجدُ في كلام العرب حشواً . قال : وما ذاك ؟ قال : يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ ، فقال : كلاَّ ، بل المعاني مختلفة ، «فعبد الله قائم » إخبار بقيامه ، و «إنَّ عبد الله قائمٌ » جواب لسؤال سائل و «إنَّ عبد الله لقائمٌ » جواب عن إنكار مُنْكِر{[45835]} وهذا هو الكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة{[45836]} . وقال أبو حيان : وجاء أولاً «مرسلون » بغير لام ، لأنه ابتداء إخْبار ، فلا يحتاج إلى توكيد ، وبعد المجاورة «لَمُرْسَلُونَ » بلام التوكيد ، لأنه جواب عن إنكارٍ{[45837]} .
قال شهاب الدين : «وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان ، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي »{[45838]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.