اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } بدل من «إذ » الأولى{[45808]} ، كأنه قال : اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين . قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن يكون «إذا » ظرفاً والفعل الواقع فيه «جَاءَها » ، أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ{[45809]} .

وإنما جاءوهم حيث أمروا . وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه ( الصلاة{[45810]} و ) السلام- أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى ( عليه{[45811]} السلام- ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } . ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل ( الأول ){[45812]} . وهذا على{[45813]} قولنا : «واضرب لهم مثلاً » ضرب المثل لأجل محمد - عليه الصلاة والسلام - ظاهر وقوله : «إذ أرسلنا إليهم اثنين » في بعثة{[45814]} الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما{[45815]} كانا مبعوثين{[45816]} من جهة عيسى عليه ( الصلاة{[45817]} و ) السلام- ( بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ){[45818]} فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً تامة{[45819]} .

فصل

قال ابن كثير : وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش ، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر ( ه ){[45820]} أنهم رسل الله - عز وجل - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان{[45821]} اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث بُولص{[45822]} والقرية أنطاكية . وهذا القول ضَعِيف جداً ؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية ، ثم بعدها قسطنطينية ، ولم يهلكوا ( إذ ){[45823]} أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ يس : 29 ] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل{[45824]} أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز . والله أعلم .

قوله : { فَعَزَّزْنَا } قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] ومنه قولهم : عَزَّ وبَزَّ{[45825]} أي صا له بَزّ .

والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا{[45826]} ، يقال : عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها ، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة . وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ{[45827]} . وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف{[45828]} أي فَقَوّيناهما ( أو فغلبناهما بثالث ){[45829]} ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق ، لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان .

وقرأ عبد الله{[45830]} «بالثُّالثِ » بألفٍ ولام{[45831]} .

قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون } جرد خبر «إنّ » هذه من لام التوكيد ، وأدخلها في خبر الثانية ، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهو الإتيان ب «إنَّ » وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم ( الرسل ) بزيادة التأكيد ، فأتوا ب «إنَّ » وب «اللاَّم » .

قال أهل البيان : الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ .

فالأول : ( يقال ){[45832]} لمن لم يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو : زَيْدٌ عَارَفٌ .

والثاني : لمن هو متردد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له : إنَّ زَيْداً عَارِفٌ .

والثالث : لمن يبالغ في إنكاره فيقال له : إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ{[45833]} . ومن أحسن ما يحكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس{[45834]} الكِنْديِّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجدُ في كلام العرب حشواً . قال : وما ذاك ؟ قال : يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ ، فقال : كلاَّ ، بل المعاني مختلفة ، «فعبد الله قائم » إخبار بقيامه ، و «إنَّ عبد الله قائمٌ » جواب لسؤال سائل و «إنَّ عبد الله لقائمٌ » جواب عن إنكار مُنْكِر{[45835]} وهذا هو الكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة{[45836]} . وقال أبو حيان : وجاء أولاً «مرسلون » بغير لام ، لأنه ابتداء إخْبار ، فلا يحتاج إلى توكيد ، وبعد المجاورة «لَمُرْسَلُونَ » بلام التوكيد ، لأنه جواب عن إنكارٍ{[45837]} .

قال شهاب الدين : «وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان ، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي »{[45838]} .


[45808]:التبيان 1079 والرازي 26/51 والسمين 4/19.
[45809]:فيه أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما... الخ ....وانظر الرازي 26/50.
[45810]:زيادة من "ب".
[45811]:سقط من "ب".
[45812]:سقط من "ب".
[45813]:في "ب" وعلى هذا قولنا.
[45814]:في "ب" بعثته.
[45815]:وفيها: إنما.
[45816]:وفيها: كانوا.
[45817]:زيادة من "ب".
[45818]:ما بين القوسين كله على العكس ساقط من "ب".
[45819]:انظر: تفسير الرازي 26/51.
[45820]:الهاء زيادة من "أ" الأصل.
[45821]:في "ب" وأن اسم الرسولين الأولين بلفظ "أن". وانظر: تفسير الحافظ ابن كثير 3/566 و567.
[45822]:وفي "ب" يونس وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 7/10. وصادق وصدوق قول ابن عباس وكعب. ويوحنا وبولس قول وهب وتومان وبولس قول مقاتل. انظر: المرجع السابق وجامع البيان 22/101.
[45823]:سقط من "ب".
[45824]:في "ب" إلى أنطاكية.
[45825]:ذكر هذا المثال الميداني في مجمع أمثاله 4/282 أي من غلب سلب وانظر أيضا حجة ابن خالويه 298 واللسان "عزز وبزز" ومعاني الزجاج 4/282.
[45826]:في "ب" قريبا وهو تحريف.
[45827]:اللسان : "ع ز ز" ومجاز القرآن 2/158.
[45828]:هذا قول أبي البقاء في التبيان 1079 ومكي في الكشف 2/2154.
[45829]:ما بين القوسين زيادة من "أ".
[45830]:ابن مسعود رضي الله عنه وقد مر التعريف به.
[45831]:أول الفراء في "معاني القرآن" ثالث" بالثالث ورجحها. انظر: معانيه 2/273 ومختصر ابن خالويه 124 و 125 وهي شاذة.
[45832]:سقط من "ب".
[45833]:قال السكاكي: "فكون التركيب تارة غير مكرر مجردا عن لام الابتداء وإن المشبهة والقسم ولامه ونوني التوكيد كنحو: زيد عارف وأخرى مكررا أو غير مجرد نحو عرفت عرفت ولزيد عارف، وإن زيدا عارف، وإن زيدا لعارف، والله لقد عرفت أو لأعرفن". انظر: مفتاح العلوم 80 وإيضاح القزويني 16 ودلائل الإعجاز 303 و 304.
[45834]:هو يعقوب بن إسحاق بن الصباح ينتهي نسبه إلى كندة من قبائل العرب مات سنة 252 هـ انظر: أعلام العرب 16 و 42.
[45835]:في دلائل الإعجاز وإيضاح القزويني أن المتكلم بهذا هو المبرد عندما سأله الكندي المتفلسف فأجاب المبرد بما ذكره المؤلف أعلى. وانظر: دلائل الإعجاز والإيضاح السابقين.
[45836]:الدر المصون 4/500.
[45837]:البحر المحيط 7/32.
[45838]:الدر المصون 4/500.