بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

{ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } قال مقاتل : هما تومان وطالوس { فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } يعني : قويناهما بثالث وهو شمعون وقرأ عاصم في رواية أبي بكر { فَعَزَّزْنَا } بالتخفيف ، ومعناهما : غلبنا . نقول : عزه يعزه إذا غلبه ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي في الخطاب } [ ص : 23 ] يعني : غلبني في القول . وقرأ الباقون : { فَعَزَّزْنَا } بالتشديد ، ومعناه : قوينا ، وشددنا الرسالة برسول ثالث ، وذلك أن عيسى ابن مريم عليهما السلام رسول إلى أنطاكية . وإنما كان إرساله بإذن الله عز وجل . فأضاف إليه حيث قال : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } ثم بعث بعد ذلك شمعون . وروي في بعض الروايات أن عيسى عليه السلام أوصى إلى الحواريين أن يتفرقوا في البلدان . ثم رفع عيسى إلى السماء ، وكان مجيء الرسل بعدما رفع عيسى . وفي بعض الروايات : أنه أرسل الرسل ، ثم رفع ، وكان للرسل من المعجزة ما للأنبياء عليهم السلام بدعاء عيسى عليه السلام فلما جاء الرسولان الأولان ، ودخلا أنطاكية ، وجعلا يناديان فيها بالإيمان بالرحمن ، يعني : يدعوان إلى الإيمان بالله عز وجل ، ويزجران أهلها عن عبادة الأصنام والشيطان ، فأخذوهما شرط الملك ، وأتَوْا بهما إلى الملك ، فلما دخلا على الملك ، قالا : إن الأوثان التي تعبدون ليست بشيء ، وإن إلهكم الله الذي في السماء ، وأن من مات منكم صار إلى النار . فغضب الملك ، وجلدهما ، وسجنهما ، ثم حضر شمعون ودخل أنطاكية ، وجاء إلى السجن فقال للسجان : ائذن لي حتى أدخل السجن ، فإني أريد أن أدفع إلى كل واحد كسرة خبز ، فأذن له . فدخل وجعل يعطي لكل واحد كسرة خبز ، حتى انتهى إلى صاحبيه ، فقال لهما : إني أريد أن آتي الملك ، وأطلب فكاككما ، حتى أخلصكما ، فإنكما لم تأتيا الأمر من قبل وجهه . ألم تعلما أنكما لا تطاعان إلا بالرفق واللطف ، وأن مثلكما مثل امرأة لم تلد زماناً من دهرها ثم ولدت غلاماً ، فأسرعت بشأنه ، فأطعمته الخبز قبل أوانه ، فغص بلقمة فمات . فكذلك دعوتكما هذا الملك قبل أوان الدعاء ، فأصابكما البلاء ، ثم انطلق شمعون ، وتركهما ، فقعد عند بيت الأصنام ، حتى إذا دخلوا بيت الأصنام ، دخل في صلاتهم ، فقام بين يدي تلك الأصنام يصلي ، ويتضرع ، ويسجد لله تعالى ، ولا يشكون أنه على ملتهم ، وأنه إنما يدعو آلهتهم ، ففعل ذلك أياماً ، فذكروا ذلك للملك ، فدعاه ، وكلمه ، وقال له : من أين أنت ؟ فقال : أنا رجل من بني إسرائيل ، وقد انقرض أهلي ، وكنت بقيتهم ، وجئت إلى أصحابك آنس بهم ، وأسكن إليكم ، فسأله الملك عن أشياء ، فوجده حسن التدبير ، والرأي فلبث فيهم ما شاء الله ، فلما رأى أمره قد استقام ، قال : يا أيها الملك إنِّي قد بلغني أنك سجنت رجلين منذ زمان يدعوانك إلى إله غير إلهاك ، فهل لك أن تدعوهما ، فأسمع كلاهما وأخاصمهما عنك ؟ فقال الملك : نعم .

فدعاهما ، وأقيما بين يديه ، فقال لهما شمعون ، أخبراني عن إلهكما ؟ فقالا : إنه يبرئ الأكمه والأبرص ، فدعي برجل ولد أعمى فدعوا الله تعالى ، فأبصر الأعمى . قال شمعون : فأنا أفعل مثل ذلك . فأتي بآخر ، فدعا شمعون رضي الله عنه فبرئ ، فقال لهما شمعون ، لا فضل لكما عليّ بهذا . ثم أتي برجل أبرص ، فدعوا ، فبرئ ، وفعل شمعون بآخر مثل ذلك . فقال لهما شمعون : فهل عندكما شيء غير هذا ؟ فقالا : نعم إن ربنا يحيي الموتى . فقال شمعون : أنا لا أقدر على ذلك . ثم قال للملك : هل لك أن تأتي بالصنم فلعله يحيي الموتى ، فيكون لك الفضل عليهما ولإلاهك ؟ فقال الملك : إنك تعلم أنه لا يسمع ، ولا يبصر ، فكيف يحيي الموتى ؟ ثم قال له شمعون سلهما هل يستطيعان أن يفعلا مثل ما قالا ؟ فقال الملك : إن عندنا ميتاً قد مات منذ سبعة أيام ، وكان لأبيه ضيعة قد خرج إليها وأهله ينتظرون قدومه ، واستأذنوا في دفنه ، فأمرهم أن يؤخروه حتى يحضر أبوه ، فَأمَرَهم بإحضار ذلك الميت ، فلم يزالا يدعوان الله تعالى ، وشمعون يعينهما بالدعاء في نفسه ، حتى أحياه الله تعالى . فقال شمعون : أنا أشهد أنهما صادقان وأن إلههما حق ، فاجتمع أهل المصر ، وقالوا : إن كلمتهم كانت واحدة ، فرجموهم بالحجارة ، وجاء أب الغلام ، فأسلم ، وقتل أب الغلام أيضاً ، وهو حبيب بن إسرائيل النجار . ثم إن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام فصاح صيحة فماتوا كلهم ، فذلك قوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ } يعني : هؤلاء الثلاثة { إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } وأروهم العلامة .