الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

قوله : { فَعَزَّزْنَا } : قرأ أبو بكر بتخفيفِ الزاي بمعنى غَلَّبْنا ، ومنه قولُه :

{ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ ص : 23 ] . ومنه قولُهم : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أي صار له بَزٌّ . والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنا . يقال : عزَّز المطرُ الأرضَ أي : قَوَّاها ولبَّدها . ويُقال لتلك الأرضِ : العَزازُ ، وكذا كلُّ أرضٍ صُلْبةٍ . وتَعَزَّزَ لحمُ الناقةِ أي : صَلُبَ وقَوِيَ . وعلى كلتا القراءتَيْن المفعولُ محذوفٌ أي : فَقَوَّيناهما بثالثٍ أو فَغَلَّبْناهما بثالث .

وقرأ عبد الله " بالثالث " بألف ولام .

قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } جَرَّد خبرَ " إنَّ " هذه من لام التوكيد ، وأَدْخَلها في خبر الثانيةِ ، لأنَّهم في الأولى استعملوا مجرَّدَ الإِنكارِ فقابَلَتْهم الرسُلُ بتوكيدٍ واحدٍ وهو الإِتيانُ ب " إنَّ " ، وفي الثانيةِ بالمبالغة في الإِنكار فقابَلَتْهم بزيادة التوكيدِ فأتَوْا ب إنَّ وباللام .

قال أهل البيان : الأخبارُ ثلاثةُ أقسامٍ : ابتدائيٌّ وطلبيٌّ وإنكاريٌّ ، فالأولُ يُقال لمن لم يتردَّدْ في نسبةِ أحدِ الطرفين إلى الآخر نحو : زيد عارفٌ ، والثاني لِمَنْ هو متردِّدٌ في ذلك ، طالِبٌ له منكِرٌ له بعضَ إنكارٍ ، فيقال له : إنَّ زيداً عارِفٌ ، والثالثُ لِمَنْ يبالِغُ في إنكارِه ، فيُقال له : إنَّ زيداً لعارِفٌ . ومِنْ أحسن ما يُحْكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْدِيِّ فقال : إني أجد في كلامِ العربِ حَشْواً قال : وما ذاك ؟ قال : يقولون : زيدٌ قائمٌ ، وإنَّ زيداً قائمٌ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ . فقال : " كلا بل المعاني مختلفةٌ ، فزيد قائمٌ إخبارٌ بقيامِه ، وإنَّ زيداً قائمٌ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ " . قلت : هذا هو الكنديٌّ الذي سُئل أن يعارِضَ القرآنَ ففتح المصحفَ فرأى سورةَ المائدةِ فكعَّ عن ذلك . والحكايةُ ذكرتُها أولَ المائدة .

وقال الشيخ : " وجاء أولاً " مُرْسَلون " بغير لام ؛ لأنه ابتداءُ إخبارٍ فلا يَحْتاجُ إلى توكيدٍ ، وبعد المحاورة " لَمُرْسَلون " بلامِ التوكيد ؛ لأنه جوابٌ عن إنكار " وهذا قصورٌ عن فَهْم ما قاله أهلُ البيان ، فإنه جَعَلَ المقام الثاني وهو الطلبيُّ مكانَ المقامِ الأولِ ، وهو الابتدائيُّ .