السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ} (14)

وإضافة إلى نفسه في قوله تعالى : { إذ أرسلنا إليهم اثنين } لأنه فعل رسوله عليه السلام { وإذ أرسلنا } إلخ بدل من إذ الأولى ، وفي هذا لطيفة وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا تفهم يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وإنما هو رسل الله تعالى ، فتكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله تعالى : { إذ أرسلنا } ويؤيد هذا مسألة فقهية وهي أن كل وكيل للوكيل بإذن الموكل عند الإطلاق وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول .

تنبيه : في بعث الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى ، فكان عليهما إنهاء الأمر إليه والإتيان بما أمر الله تعالى ، والله سبحانه عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده ، وأما عيسى عليه السلام فبشر فأمر الله تعالى بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى عليه السلام حجة ثابتة ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل ، وحمزة والكسائي بضمهما ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء ، والباقون بكسرها ، والجميع في الوقف بسكون الميم . { فكذبوهما } أي : مع ما لهما من الآيات ؛ لأن من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولاً إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر سواء أكان عنا من غير واسطة ، أو كان بواسطة رسولنا كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النورين لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية فكانت نوراً في جبهته ، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه .

ولما كان المتظافر على الشيء أقوى لشأنه وأعون على ما يراد منه تسبب عن ذلك قوله تعالى { فعززنا } أي : قوينا { بثالث } يقال : عزز المطر الأرض أي : قواها ولبدها ويقال لتلك الأرض العزاز وكذا كل أرض صلبة ، وتعزز لحم الناقة أي : صلب وقوي والمفعول محذوف أي : فقويناهما بثالث ، أو فغلبناهما بثالث ؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين بالبرهان قال وهب : اسم المرسلين يحيى ويونس ، واسم الثالث شمعون ، وقال كعب : الرسولان صادق ومصدوق والثالث : سلوم ، وقرأ شعبة بتخفيف الزاي الأولى ، والباقون بتشديدها والزاي الثانية ساكنة بلا خلاف . { فقالوا إنا إليكم مرسلون } وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه السلام اثنين فلما قربا من المدينة رأيا حبيباً النجار يرعى غنماً فسلما عليه فقال : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى عليه السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمان فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى فقال : إن لي ابناً مريضاً منذ سنين قالا : فانطلق بنا ننظر حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحاه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحاً ففشا الخبر في المدينة وآمن حبيب النجار ، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيراً من المرضى وكان لهم ملك اسمه أنطيخس وكان من ملوك الروم فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما : من أنتما ؟ فقالا : رسولا عيسى عليه السلام قال : وفيما جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر قال : أولنا إله دون آلهتنا ؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك فقال : قوما حتى أنظر في أمركما وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفار على أثرها لينصرهما ، فدخل البلد متنكراً وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعوا إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا ؟ قالا : الله تعالى الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال لهما شمعون : فصفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال لهما شمعون : وما آيتكما ؟ قالا : ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك : أرأيت إن سألت إلهك يصنع مثل هذا حتى يكون لك الشرف ولآلهتك ؟ فقال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيراً ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم ، ثم قال الملك لهما : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا : إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك : إن هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه ، وكان غائباً فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سراً ، فقام الميت وقال : إني دخلت سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله تعالى ، ثم قال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسناً يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال : شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك لما علم ، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن قوم وكفر آخرون ، فمن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا .

وقيل : أن ابنة الملك كانت قد توفيت ودفنت فقال شمعون للملك : اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك فطلب الملك منهما ذلك فقاما وصليا ودعوا الله تعالى وشمعون معهما في السر فأحيا الله تعالى المرأة ، ثم انشق القبر عنها فخرجت وقالت : أسلموا فإنهما صادقان قالت : ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا تراباً على رأسها فعادت إلى قبرها كما كانت ، وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر واجتمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة بالأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين .