قوله تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن } . قال عطاء : شرائع ، وقال الكلبي :مضت لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضي الله عنهم ، وقال مجاهد ( قد خلت من قبلكم سنن ) بالهلاك فيمن كذب قبلكم ، وقيل : سنن أي أمم والسنة : الأمة .
ما عاين الناس من فضل كفضلكم *** ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
وقيل معناه : أهل السنن ، والسنة الطريقة المتبعة في الخير والشر ، يقال : سن فلان سنة حسنة وسنة سيئة إذا عمل عملاً اقتدى به من خير وشر . ومعنى الآية : قد مضت وسلفت مني سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بإمهالي واستدراجي إياهم حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته لإهلاكهم وإدالة أنبيائي عليهم .
قوله تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } . أي : آخر أمر المكذبين ، وهذا في حرب أحد ، يقول الله عز وجل : فأنا أمهلهم وأستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلته في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وإهلاك أعدائه .
ثم قال تعالى : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ }
وهذه الآيات الكريمات ، وما بعدها في قصة " أحد " يعزي تعالى عباده المؤمنين ويسليهم ، ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة ، امتحنوا ، وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين ، فلم يزالوا في مداولة ومجاولة ، حتى جعل الله العاقبة للمتقين ، والنصر لعباده المؤمنين ، وآخر الأمر حصلت الدولة على المكذبين ، وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم .
{ فسيروا في الأرض } بأبدانكم وقلوبكم { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنكم لا تجدونهم إلا معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية ، قد خوت ديارهم ، وتبين لكل أحد خسارهم ، وذهب عزهم وملكهم ، وزال بذخهم وفخرهم ، أفليس في هذا أعظم دليل ، وأكبر شاهد على صدق ما جاءت به الرسل ؟ "
يقول تعالى مخاطبا عباده{[5772]} المؤمنين الذين أُصِيبوا يومَ أُحُد ، وقُتِل منهم سبعون : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي : قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ؛ ولهذا قال : { فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } .
استئناف ابتدائي : تمهيد لإعادة الكلام على ما كان يوم أحُد ، وما بينهما استطراد ، كما علمت آنفاً ، وهذا مقدّمة التَّسلية والبشارة الآيتين . ابتدئت هاته المقدّمة بحقيقة تاريخية : وهي الاعتبار بأحوال الأمم الماضية .
وجيء ب ( قد ) ، الدّالة على تأكيد الخبر ، تنزيلاً لهم منزلة من ينكر ذلك لما ظهر عليهم من انكسار الخواطر من جراء الهزيمة الحاصلة لهم من المشركين ، مع أنّهم يقاتلون لنصر دين الله ، وبعد أن ذاقوا حلاوة النَّصر يوم بدر ، فبيّن الله لهم أنّ الله جعل سنّة هذا العامل أن تكون الأحوال فيه سجالاً ومداولة ، وذكّرهم بأحوال الأمم الماضية ، فقال : { قد خلت من قبلكم سنن } . والله قادر على نصرهم ، ولكن الحكمة اقتضت ذلك لئلاّ يغترّ من يأتي بعدهم من المسلمين ، فيحسب أنّ النَّصر حليفهم . ومعنى خلت مضت وانقرضت . كقوله تعالى : { قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 137 ] .
والسنن جمع سنة وهي السيرة من العمل أو الخلق الذي يلازم المرءُ صدور العمل على مثالها قال لبيد :
من معشر سنَّت لهم آباؤهم *** ولكُلّ قوم سُنَّة وإمَامُهَا
وقال خالد الهذلي يخاطب أبا ذؤيب الهذلي :
فَلاَ تَجْزَعَنْ من سُنّة أنتَ سرْتها *** فأوّلُ راضٍ سنّةً من يَسيرها
وقد تردّد اعتبار أيمّة اللّغة إيّاها جامداً غير مشتقّ ، أو اسم مصْدر سَنّ ، إذ لم يرد في كلام العرب السَّنُّ بمعنى وضْع السنّة ، وفي « الكشاف » في قوله : { سنة اللَّه في الذين خلوا من قبل } في سورة [ الأحزاب : 38 ] : سنة الله اسم موضوع موضع المصدر كقولهم تُرْباً وَجَنْدَلاً ، ولعلّ مراده أنَّه اسم جامد أقيم مقام المصدر كما أقيم تُربا وجندلاً مُقام تَبَّاً وسُحْقاً في النصب على المفعولية المطلقة ، الَّتي هي من شأن المصادر ، وأنّ المعنى تراب له وجندل له أي حُصِب بتراب ورُجم بجندل . ويظهر أنَّه مختار صاحب لأنَّه لم يذكر في مادّة سَنّ ما يقتضي أنّ السنّة اسم مصدر ، ولا أتى بها عقب فعل سَنّ ، ولا ذكر مصدراً لفعل سنّ . وعلى هذا يكون فعل سنّ هو المشتقّ من السنّة اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة ، وهو اشتقاق نادر . والجاري بكثرة على ألسنة المفسّرين والمعربين : أنّ السنّة اسم مصدر سَنّ ولم يذكروا لِفعل سَنّ مصدراً قياسياً . وفي القرآن إطلاق السنّة على هذا المعنى كثيراً : { فلن تجد لسنة اللَّه تبديلاً } [ فاطر : 43 ] وفسّروا السنن هنا بسنن الله في الأمم الماضية .
والمعنى : قد مضت من قبلكم أحوال للأمم ، جارية على طريقة واحدة ، هى عادة الله في الخلق ، وهي أنّ قوّة الظالمين وعتّوهم على الضعفاء أمر زائل ، والعاقبة للمتّقين المحقّين ، ولذلك قال : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي المكذّبين بِرسل ربّهم وأريد النظر في آثارهم ليحصل منه تحقّق ما بلغ من أخبارهم ، أو السؤال عن أسباب هلاكهم ، وكيف كانوا أولي قوة ، وكيف طغوا على المستضعفين ، فاستأصلهم الله أو لتطمئنّ نفوس المؤمنين بمشاهدة المخبر عنهم مشاهدةَ عيان ، فإنّ للعيان بديع معنى لأنّ بَلَغتهم أخبار المكذّبين ، ومن المكذّبين عاد وثمود وأصحاب الأيكة وأصحاب الرسّ ، وكلّهم في بلاد العرب يستطيعون مشاهدة آثارهم ، وقد شهدها كثير منهم في أسفارهم .
وفي الآية دلالة على أهميِّة علم التَّاريخ لأنّ فيه فائدة السير في الأرض ، وهي معرفة أخبار الأوائل ، وأسباب صلاح الأمم وفسادها . قال ابن عرفة : « السير في الأرض حسّي ومعنوي ، والمعنوي هو النظر في كتب التَّاريخ بحيث يحصل للنَّاظر العلم بأحوال الأمم ، وما يقرب من العلم ، وقد يحصل به من العلم ما لا يحصل بالسير في الأرض لِعجز الإنسان وقصوره » .
وإنَّما أمر الله بالسير في الأرض دون مطالعة الكتب لأنّ في المخاطبين مَن كانوا أمِّيين ، ولأنّ المشاهدة تفيد من لم يقرأ علماً وتقوّي عِلْم من قرأ التَّاريخ أو قصّ عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.