اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} (137)

لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعةِ والتوبةِ ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي ، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين .

قال الواحدي : أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى : المُضِيّ ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود ، وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .

قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب " خَلَتْ " ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من { سُنَنٌ } ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً ، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً .

والسُّنَن : جمع سُنَّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سُنَّة الأنبياء .

قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب : [ الطويل ]

فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا *** فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا{[5964]}

وقال آخر : [ الطويل ]

وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** تَأسَّوْا ، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا{[5965]}

وقال لبيد : [ الكامل ]

مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ *** وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا{[5966]}

وقال المفضَّل : السُّنَّة : الأمة ، وأنشد : [ البسيط ]

مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ *** وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ{[5967]}

ولا دليل فيه ؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن .

وقال الخليل : سَنَّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : مُصَوَّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة .

وقيل : مسنون ، أي : متغير .

وقال بعض أهل اللغة : هي فُعْلة من سَنَّ الماء ، يسنه ، إذا والى صَبَّه ، والسَّنُّ : صَبُّ الماء والعرق نحوهما .

وأنشد لزهير : [ الوافر ]

نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ *** تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ{[5968]}

أي : يُصب عليها من العرق ، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد ، فالسُّنَّة بمعنى : مفعول ، كالغُرْفَةِ .

وقيل : اشتقاقها من سننت النَّصْل ، أسنّه ، سنًّا ، إذا حددته [ على المِسَن ]{[5969]} ، والمعنى : أن الطريقةَ الحسنةَ ، يُعْتَنَى بها ، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه .

وقيل : من سَنَّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته . وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة .

فصل

قال [ أكثر المفسرين ] {[5970]} : المراد : سنن الهلاك ؛ لقوله تعالى : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ الزخرف : 25 ] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ ؛ لحرصهم على الدنيا ، ثم انقرضوا ، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا ، والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين ، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله ، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة .

قال الزجاج : المعنى : أهل سنن ، فحذف المضاف .

قال مجاهد : بل المراد ، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ، فإن الدنيا لم تَبْقَ ، لا مع المؤمن ، ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في العُقْبَى ، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة .

قوله : { فَسِيرُواْ } جملة معطوفة على ما قبلها ، و التسبُّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم .

وقال أبو البقاء : " ودخلت الفاء في " فَسِيرُوا " ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا " .

وقوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } " كيف " خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمُّنه معنى " الاستفهام " ، وهو معلق ل " انْظُرُوا " قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض ؛ إذ الأصل : انظروا في كذا .

فصل

والغرض من هذا الكلام : زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171-173 ] ، وقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] ، وقوله : { أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود : تعرف أحوالهم ، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ، ويحتمل أن يقال - أيضاً - : إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها ، أثر أقوى من أثر السماع .

قال الشاعر : [ الخفيف ]

إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا *** فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ{[5971]}

فصل

قال المفسرون : وهذا في حرب أحد ، يقول : فأنا أمهلهم ، وأسْتدرجهم ، حتى يبلغ أجلي الذي أجَّلْتُ في نُصْرَة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه .


[5964]:البيت لخالد الهذلي –ينظر جمهرة اللغة ص 725 وخزانة الأدب 5/84، 8/515، 9/59 والخصائص 2/212 واللسان (سير) والدر المصون 2/213 ولزهير بن أبي سلمى في الأشباه والنظائر 2/399 ولخالد بن عتبة الهذلي في لسان العرب (سنن) وروي صدر البيت برواية أخرى وهي: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها *** ...
[5965]:البيت لسليمان بن قتيبة ينظر ابن الشجري 1/131 والبحر المحيط 3/60، ورغبة الآمل 2/86 وأنساب الأشراف 5/339 وجامع البيان 7/231 والصحاح 6/2268 والتاج 10/17 والدر المصون 2/213.
[5966]:ينظر البيت في ديوانه (320) والدرر 1/5 وابن الشجري 1/110 والخصائص 1/32 والهمع 1/11 والقرطبي 4/216 والبحر المحيط 3/60 وشرح القصائد العشر ص 275 وجمهرة أشعار العرب ص 267 وجامع البيان 7/230 والدر المصون 2/213.
[5967]:ينظر البيت في البحر المحيط 3/60 والقرطبي 4/216 والدر المصون 2/213.
[5968]:ينظر البيت في ديوانه (187) وأشعار الشعراء الستة الجاهليين 1/338 واللسان (سنن) والدر المصون 2/213.
[5969]:سقط في أ.
[5970]:في أ: الأكثرون.
[5971]:ينظر البيت في مفاتيح الغيب 9/12.