لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعةِ والتوبةِ ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي ، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين .
قال الواحدي : أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى : المُضِيّ ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود ، وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب " خَلَتْ " ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من { سُنَنٌ } ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً ، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً .
والسُّنَن : جمع سُنَّة ، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها ، ومنه سُنَّة الأنبياء .
قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب : [ الطويل ]
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا *** فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا{[5964]}
وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** تَأسَّوْا ، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا{[5965]}
مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ *** وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا{[5966]}
وقال المفضَّل : السُّنَّة : الأمة ، وأنشد : [ البسيط ]
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ *** وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ{[5967]}
ولا دليل فيه ؛ لاحتمال أن يكون معناه : أهل السنن .
وقال الخليل : سَنَّ الشيء بمعنى : صوره ، ومنه : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : مُصَوَّر وقيل : سن الماء والدرع إذا صبهما ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] يجوز أن يكون منه ، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة .
وقال بعض أهل اللغة : هي فُعْلة من سَنَّ الماء ، يسنه ، إذا والى صَبَّه ، والسَّنُّ : صَبُّ الماء والعرق نحوهما .
نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ *** تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ{[5968]}
أي : يُصب عليها من العرق ، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب ، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد ، فالسُّنَّة بمعنى : مفعول ، كالغُرْفَةِ .
وقيل : اشتقاقها من سننت النَّصْل ، أسنّه ، سنًّا ، إذا حددته [ على المِسَن ]{[5969]} ، والمعنى : أن الطريقةَ الحسنةَ ، يُعْتَنَى بها ، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه .
وقيل : من سَنَّ الإبل ، إذا أحسن رعايتها ، والمعنى : أن صاحب السنة يقوم على أصحابه ، كما يقوم الراعي على إبله ، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم أحسن رعايته وإدامته . وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة .
قال [ أكثر المفسرين ] {[5970]} : المراد : سنن الهلاك ؛ لقوله تعالى : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [ الزخرف : 25 ] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ ؛ لحرصهم على الدنيا ، ثم انقرضوا ، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا ، والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين ، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله ، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة .
قال الزجاج : المعنى : أهل سنن ، فحذف المضاف .
قال مجاهد : بل المراد ، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ، فإن الدنيا لم تَبْقَ ، لا مع المؤمن ، ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا ، والثواب الجزيل في العُقْبَى ، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة .
قوله : { فَسِيرُواْ } جملة معطوفة على ما قبلها ، و التسبُّب في هذه الفاء ظاهر ، أي : سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم .
وقال أبو البقاء : " ودخلت الفاء في " فَسِيرُوا " ؛ لأن المعنى على الشرط ، أي : إن شككتم فسيروا " .
وقوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } " كيف " خبر مقدم ، واجب التقديم ، لتضمُّنه معنى " الاستفهام " ، وهو معلق ل " انْظُرُوا " قبله ، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض ؛ إذ الأصل : انظروا في كذا .
والغرض من هذا الكلام : زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171-173 ] ، وقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] ، وقوله : { أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [ الأنبياء : 105 ] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود : تعرف أحوالهم ، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود ، ويحتمل أن يقال - أيضاً - : إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها ، أثر أقوى من أثر السماع .
إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا *** فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ{[5971]}
قال المفسرون : وهذا في حرب أحد ، يقول : فأنا أمهلهم ، وأسْتدرجهم ، حتى يبلغ أجلي الذي أجَّلْتُ في نُصْرَة النبي صلى الله عليه وسلم وأوليائه وهلاك أعدائه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.