قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عاصم بن بَهْدَلة ، عن زر بنُ حُبَيش قال : قلت لأبي بن كعب : إن ابن مسعود [ كان ]{[1]} لا يكتب المعوذتين في مصحفه ؟ فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل ، عليه السلام ، قال له : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } فقلتها ، قال : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } فقلتها . فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم{[2]} . {[3]} .
ورواه أبو بكر الحُميدي في مسنده ، عن سفيان بن عيينة ، حدثنا عبدة بن أبي لُبَابة ، وعاصم بن بهدلة ، أنهما سمعا زر بن حبيش قال : سألتُ أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقلت : يا أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يَحُكهما من المصحف . فقال : إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قيل{[4]} لي : قل ، فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5]} .
وقال أحمد : حدثنا وَكيع ، حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زر قال : سألتُ ابنَ مسعود عن المعوذتين فقال : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال : " قيل لي ، فقلت لكم ، فقولوا " . قال أبي : فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نقول{[6]} .
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عَبدَةُ بن أبي لُبَابة ، عن زر بن حُبَيش - وحدثنا عاصم عن زر - قال : سألت أبي بن كعب فقلت : أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا . فقال : إني سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " قيل لي ، فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[7]} .
ورواه البخاري أيضًا والنسائي ، عن قتيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبدة وعاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، به{[8]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الأزرق بن علي ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا الصَّلْت بن بَهرَام ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : كان عبد الله يَحُك المعوذتين من المصحف ، ويقول : إنما
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما ، ولم يكن عبد الله يقرأ بهما{[9]}
ورواه عبد الله بن أحمد من حديث الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن{[10]} بن يزيد قال : كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله .
قال الأعمش : وحدثنا عاصم ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب قال : سألنا عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " قيل لي ، فقلت " {[11]} .
وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء : أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فلعله لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يتواتر عنده ، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة ، رضي الله عنهم ، كتبوهما{[12]} في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق كذلك ، ولله الحمد والمنة .
وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن قيس بن أبي حَازم ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم يُر مثلهن قط : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }{[13]} .
ورواه أحمد ، ومسلم أيضا ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن عقبة ، به{[14]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، عن عقبة بن عامر قال : بينا أنا أقود برسول الله صلى الله عليه وسلم في نَقب من تلك النقاب ، إذ قال لي : " يا عقبة ، ألا تَركب ؟ " . قال : [ فَأجْلَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه . ثم قال : " يا عُقيب ، ألا تركب ؟ " . قال ]{[15]} فأشفقت أن تكون معصية ، قال : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبت هنيهة ، ثم ركب ، ثم قال : " يا عقيب ، ألا أُعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس ؟ " . قلت : بلى يا رسول الله . فأقرأني : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ثم أقيمت الصلاة ، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بهما ، ثم مر بي فقال : " كيف رأيت يا عقيب{[16]} ؟ اقرأ بهما كلما نمت ، وكلما قمت " .
ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن ابن جابر ، به{[17]} .
ورواه أبو داود والنسائي أيضًا ، من حديث ابن وهب ، عن معاوية بن صالح ، عن العلاء بن الحارث ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عقبة ، به{[18]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني يزيد بن عبد العزيز الرعيني وأبو مرحوم ، عن يزيد بن محمد القرشي ، عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة .
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن علي بن أبي رباح{[19]} . وقال الترمذي : غريب .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى{[20]} بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن مشَرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ بالمعوذتين ، فإنك لن تقرأ بمثلهما " . تفرد به أحمد{[21]} .
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا حيوة بن شُرَيْح ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جُبَير بن نُفَير ، عن عقبة بن عامر أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له بغلة شهباء ، فركبها فأخذ عقبة يقودها له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[22]} : اقرأ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } فأعادها له حتى قرأها ، فعرف أني لم أفرح بها جدًا ، فقال : " لعلك تهاونت بها ؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها " .
ورواه النسائي عن عمرو بن عثمان ، عن بقية ، به{[23]} . ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين ، فذكر نحوه{[24]} .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، سمعت النعمان ، عن زياد أبي الأسد ، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ }{[25]} .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن أبي عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن عقبة بن عامر قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عقبة ، قل " . فقلت : ماذا أقول ؟ فسكت عني ، ثم قال : " قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فسكت عني ، فقلت : اللهم ، أردده علي . فقال : " يا عقبة ، قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال : " { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال : " قل " . قلت : ماذا أقول يا رسول الله ؟ قال : " { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ، فقرأتها حتى أتيت على آخرها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " ما سأل سائل بمثلهما ، ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما " {[26]} .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا محمد بن يسار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا معاوية ، عن العلاء بن الحارث ، عن مكحول ، عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاة الصبح{[27]} .
طريق أخرى : قال النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي عمران أسلم ، عن عقبة بن عامر قال : اتبعت{[28]} رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب ، فوضعت يدي على قدمه{[29]} فقلت : أقرئني سورة هود أو سورة يوسف . فقال : " لن تقرأ شيئًا أنفع{[30]} عند الله من { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق }{[31]} .
حديث{[32]} آخر : قال النسائي : أخبرنا محمود بن خالد ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي عبد الله ، عن ابن عائش{[33]} الجهني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا ابن عائش ، ألا أدلك - أو : ألا أخبرك - بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون ؟ " . قال : بلى ، يا رسول الله . قال : " { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } هاتان السورتان " {[34]} .
فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه ، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث .
وقد تقدم في رواية صُدَيّ بن عجلان ، وفَرْوَةَ بن مُجَاهد ، عنه : " ألا أعلمك ثلاثَ سُوَر لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان{[35]} مثلهن ؟ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا الجريري ، عن أبي العلاء قال : قال رجل : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، والناس يعتقبون ، وفي الظهر قلة ، فحانت نزلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلتي ، فلحقني فضرب [ من بعدي ]{[36]} منكبي ، فقال : " { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، ثم قال : " { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأتها معه ، فقال : " إذا صليت فاقرأ بهما " {[37]} .
الظاهر أن هذا الرجل هو عقبة بن عامر ، والله أعلم .
ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية ، به{[38]} .
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن عبد الله بن سعيد ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عقبة بن عامر ، عن عبد الله الأسلمي - هو ابن أنيس - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " . فلم أدر ما أقول ، ثم قال لي : " قل " . قلت : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثم قال لي : " قل " . قلت : { أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ } حتى فرغت منها ، ثم قال لي : " قل " . قلت : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فَتَعَوَذْ{[39]} ، ما تعوذَ المتعوذون بمثلهن قط " {[40]} .
حديث آخر : قال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي أبو حفص ، حدثنا بَدَل ، حدثنا شداد بن سعيد أبو طلحة ، عن سعيد الجُرَيري ، حدثنا أبو نَضْرة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ يا جابر " . قلت : وما أقرأ بأبي أنت وأمي ؟ قال : " اقرأ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس } . فقرأتهما ، فقال : " اقرأ بهما ، ولن تقرأ بمثلهما " {[41]} .
وتقدم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهن ، وينفث في كفيه ، ويمسح بهما رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده .
وقال الإمام مالك : عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح بيده عليه ، رجاء بركتها .
ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة- ومن حديث ابن القاسم ، وعيسى بن يونس - وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عُمَر ، ثمانيتهم عن مالك ، به{[42]} .
وتقدم في آخر سورة : " ن " من حديث أبي نضرة ، عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من أعين الجان ، وعين الإنسان ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما ، وترك ما سواهما . رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث حسن .
هذه ثلاث صفات{[30906]} من صفات الرب عز وجل : الربوبية ، والملك ، والإلهية ؛ فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له ، مملوكة عبيد له ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات .
تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سورة الناس { قل أعوذ برب الناس } .
وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان { المعوذتين } ، و{ المشقشقتين } بتقديم الشين على القافين ، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان { المشقشقتين } بتقديم القافين على الشينين ، وعنونها ابن عطية في المحرر الوجيز { سورة المعوذة الثانية } بإضافة { سورة }إلى { المعوذة } من إضافة الموصوف إلى الصفة . وعنونهما الترمذي { المعوذتين } ، وعنونها البخاري في صحيحه { سورة قل أعوذ برب الناس } .
وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة { سورة الناس } وكذلك أكثر كتب التفسير .
وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية ، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مدنية . والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين ، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى .
وقال في الإتقان : أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم ، وأنها نزلت مع { سورة الفلق } وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي ، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق .
وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور ، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص .
وعد آيها ست آيات ، وذكر في الإتقان قولا : إنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد .
إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإغراض عن دعوته . وفي هذا الأمر إيماء إلى الله تعالى معيذه في ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه ، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس . ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم . ومن قابلية التعرض إلى الوسواس ، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى .
شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوُّذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس ، وسورة الناس تعوّذ من شرور مخلوقات خفيّة وهي الشياطين .
والقول في الأمر بالقول ، وفي المقول ، وفي أن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود شموله أمته ، كالقول في نظيره من سورة الفلق سواء .
وعُرِّف { رب } بإضافته إلى { الناس } دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيَضِلُّون ويُضلون ، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس ، فناسب أن يُستحضر المستعاذُ إليه بعنوان أنه رب من يُلْقون الشر ومن يُلْقَى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمَولى العبد : يا مولَى فلان كُف عني عبدك .
وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيباً مدرَّجاً فإن الله خالقهم ، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم ، ثم زيد بياناً بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضاً وحاكمية بعضهم في بعض .
وفي هذا الترتيب إشعار أيضاً بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادىء ذي بدء بأن له رباً يسبب ما يشعُر به من وجود نفسه ، ونعمة تركيبه ، ثم يتغلغل في النظر فيَشعر بأن ربه هو المَلِكُ الحقُّ الغني عن الخلق ، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم .