تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الناس مدنية ){[1]}

الآية 1 : قوله تعالى : { قل أعوذ برب الناس } فظاهره أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشيء مشار إليه ، وهو التعوذ ، وفي{[24241]} الإجابة في مثله أن يقول : { قل أعوذ } لكنه ، والله أعلم ، يخرج على وجهين :

أحدهما : أن يكون ذلك أنزله حتى{[24242]}يصير ذلك أمرا لكل من بلغه ، وتعليما بالذي عليه بالاعتصام بالله تعالى ، والالتجاء إليه ، من شر الذي ذكره ليعيذه . وتكون الإعاذة بوجهين :

أحدهما : في تذكير ما عرفه من الحجج في دفع ما يخطر بباله والمكروه .

والثاني : باللطف الذي لا يبلغه علم الخلق ، ولا تدركه عقولهم ، مما لديه يقع الأمن من الزيغ ، مما حقه الإفضال .

والذي ذلك حقه ( فلله تعالى أن يكرم العبد مبتدأ ، وله أن يقدم فيه محنة السؤال والاعتصام به على الإكرام أيضا ، ويكرم من اعتصم به من الزلة ، أو هدي إلى سنة الشكر لله تعالى ){[24243]} في ما ابتدأه ، أو أكرم به عند السؤال .

والوجه الثاني من وجهي الخطاب أن يكون الخطاب لغيره ، وإن كان راجعا إلى مشار إليه ، فهو مما يشترك في معناه غيره ، فأبقى ، وأثبت ما به يصير مخاطبا من بلغ ذلك ، وهو قوله تعالى : { قل } حتى يدوم هذا إلى آخر الدهر . وعلى ( هذا جميع ما ){[24244]} فيه حرف الكلفة والمحنة ، أعني صيغة الأمر ، والله الموفق .

ثم في قوله تعالى : { قل أعوذ برب الناس } إلى آخر السورة وجهان من الحكمة فيهما نقض قول أهل الاعتزال :

أحدهما : أن المحنة قد ثبتت بالامتناع عن طاعة الشيطان والمخالفة له . فأما إن كان الله تعالى قد أعطاه ، فهو يطلب ذلك بالتعوذ والاعتصام بالله تعالى ، كاتما لما أعطاه ، طالبا ما ليس عند الله تعالى ، فيكون الأمر بالتعوذ محنة وأمرا بما به كتمان ذلك ، وذلك حين استوفاه بكون إنكاره ستر نعم الله ، وقد تبرأ / 659 ب ن الأمر بالفحشاء والمنكر ، وبين أن ذلك من عمل الشيطان .

( والثاني ){[24245]} في المحنة بهذا محنة الاستهزاء بالله تعالى ؛ لأنه يطلب منه ما يعلم أنه لا يملكه ، ولا يجده عند نفسه ، وذلك من علم الهزء ، وعند ذوي العقول .

فمن ظن أن الله تعالى يمتحن عباده ، ويأمرهم بشيء مما ذكرنا ، فهو جاهل بالله تعالى وبحكمته ، وإن لم يكن الله تعالى أعطاه ، فعنده بعد ذلك .

ثم كان من مذهبهم أنه ليس لله تعالى أن يمتحنهم بفعل إلا بعد إيتاء جميع ما عنده مما قوامه ووجوده ، ففي ذلك اعتراف بلزوم المحنة ، وتوجه التكليف قبل إيتاء جميع ما عنده مما به الوصول إلى ما أمر به ، وذلك ترك مذهبهم مع ما كان عندهم أنه لو كان عند الله أمر ومعنى لا يقع فعل المختار لأجل أنه{[24246]} لا يعطيه ذلك ، لم يكن له أن يمتحنه ، وهو بالامتحان جائر .

فأما إن سألوه بفعل قد أمر به ، وإن لم يكن أعطاهم ذلك ، وهم ما وصفوا الله تعالى بمثل ذلك ، أو بفعل يتلو وقت الأمر بذلك ، ويكون أعطاهم ذلك وقت الأمر ، فكأنه ظن أن يؤمروا ، ولا يعطي حتى يسأل ، وذلك حرف الجور .

ثم الأصل الذي اطمأنت به قلوب الذين يعرفون الله تعالى أنه متى هدى الهداية التي سئل ، أو عصم العصمة التي تطلب ، أو وفق لما يرجى من الفعل ، أو أعان عند ما يخاف أنه كان ذلك ، لا محالة ، وتحقق بلا شبهة ، ويؤمن لديه من الزيغ والضلال ، وعلى ذلك جبلوا مما لا تجد غير معتزلي إلا وقد اطمأن قلبه به ، حتى يعلم أن هذا منه وقع ، المجبول عليه ، بالتقليد ، ولا قوة إلا بالله تعالى .


[1]:- في ط ع: سمح.
[24241]:في الأصل وم: وهو
[24242]:في الأصل وم: بحق أن
[24243]:من م، ساقطة من الأصل
[24244]:في الأصل: جميع لما، في م: جميع ما
[24245]::في الأصل وم: ثم
[24246]:في الأصل وم لأنه