وقوله :{ إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم } واختلف في هذا الاستثناء ، قيل : هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك ، ثم تاب فقال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فغفر له . قال ابن جريج : قال الله تعالى لموسى : إنما أخفتك لقتلك النفس . وقال : معنى الآية : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحاً وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله : { إلا من ظلم } ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة . وفي الآية متروك استغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه ، تقديره : فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم . وقال بعض العلماء : ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم ، بل هو استثناء من المتروك في الكلام ، معناه : لا يخاف لدي المرسلون ، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين ، إلا من ظلم ثم تاب ، وهذا من الاستثناء المنقطع ، معناه : لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف ، فإن تاب وبدل حسناً بعد سوء فإن الله غفور رحيم ، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه . وقال بعض النحويين : إلا ها هنا بمعنى : ولا ، يعني : لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء ، يقول : لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون ، كقوله تعالى : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم } يعني : ولا الذين ظلموا .
{ إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ } أي : فهذا الذي هو محل الخوف والوحشة بسبب ما أسدى من الظلم وما تقدم له من الجرم ، وأما المرسلون فما لهم وللوحشة والخوف ؟ ومع هذا من ظلم نفسه بمعاصي الله ، ثم تاب وأناب فبدل سيئاته حسنات ومعاصيه طاعات فإن الله غفور رحيم ، فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته فإنه يغفر الذنوب جميعا وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها .
وقوله : { إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } هذا استثناء منقطع ، وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على [ عمل ]{[21973]} شيء ثم أقلع عنه ، ورجع وأناب ، فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } [ طه : 82 ] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ] والآيات في هذا كثيرة جدًا .
واختلف الناس في الاستثناء في قوله تعالى { إلا من ظلم } ، فقال مقاتل وغيره : الاستثناء متصل{[8990]} وهو من الأنبياء ، وروى الحسن أن الله تعالى قال لموسى : أخفتك بقتلك النفس ، وقال الحسن أيضاً : كانت الأنبياء تذنب فتعاقب ثم تذنب والله فتاقب فكيف بنا ، وقال ابن جريج : لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه ، قال كثير من العلماء : لم يعر أحد من البشر من ذنب إلا ما روي عن يحيى بن زكرياء عليهما السلام{[8991]} .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع العلماء أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل واختلف فيما عدا هذا ، فعسى أن يشير الحسن وابن جريج إلى ما عدا ذلك ، وفي الآية على هذا التأويل حذف اقتضى الإيجاز والفصاحة ترك نصه تقديره فمن ظلم { ثم بدل } ، وقال الفراء وجماعة : الاستثناء منقطع وهو إخبار عن غير الأنبياء كأنه قال : لكن من ظلم من الناس ثم تاب { فإني غفور رحيم } ، وقالت فرقة : { إلا } بمعنى الواو .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا وجه له{[8992]} ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وزيد بن أسلم «ألا من ظلم » على الاستفتاح ، وقوله { ثم بدل حسناً } معناه عملاً صالحاً مقترناً بتوبة ، وهذه الآية تقتضي حتم المغفرة للتائب ، وأجمع الناس على ذلك في التوبة من الشرك ، وأهل السنة في التائب من المعاصي على أنه في المشيئة كالْمُصِرِّ ، لكن يغلب الرجاء على التائب والخوف على المصر ، وقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[8993]} [ النساء : 48 ] عمت الجميع من التائب والمصر ، وقالت المعتزلة :{ لمن يشاء } [ النساء : 48 ] معناه للتائبين .
قال القاضي أبو محمد : وذلك مردود من لفظ الآية لأن تفصيلها بين الشرك وغيره كان يذهب فائدته إذ الشرك يغفر للتائب وما دونه كذلك على تأويلهم فما فائدة التفصيل في الآية وهذا احتجاج لازم فتأمله ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «حَسناً بعد سَوء » بفتح الحاء والسين وهي قراءة مجاهد وابن أبي ليلى ، وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني{[8994]} «حسنى » مثل فعلى .
الاستثناء في قوله : { إلا من ظلم } ظاهره أنه متصل . ونسَب ابن عطية هذا إلى مقاتل وابن جُريج فيكون { من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء } مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيّز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي إلا رسولاً ظَلم ، أي فَرط منه ظلم ، أي ذَنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثلُه في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل ( قبل أن يكون الرسول متعبَّداً بشرع ) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة يوسف لأخيهم ، واعتداء موسى على القِبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ؛ فذلك الذي ظلم ثم بَدَّل حُسناً بعد سوء ، أي تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له .
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، فأفرغ هذا التطمين لموسى في قالَب العموم تعميماً للفائدة .
واستقامةُ نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع في قوله : { فإني غفور رحيم } . فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يَخاف لأني غافر له وقابل لتوبته لأني غفور رحيم . وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبَيْن بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولَك { هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضلّ مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 15 ، 16 ] ، وعزمَك على الاستقامة يوم قلتَ : { رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين } [ القصص : 17 ] .
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدّل حسناً بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم .
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل { ظَلم } ليومىء إلى قول موسى يوم ارتكب الاعتداء { ربّ إني ظلمتُ نفسي } [ القصص : 16 ] ولذلك تعين أن يكون المقصود ب { من ظَلم ثم بدّل حسناً بعد سوء } موسى نفسَه .
وقال الفرّاء والزجاج والزمخشري وجرى عليه كلام الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظَلم وبدّل حسناً بعد سوء من الناس يغفر له . وعليه تكون { مَن } صادقة على شَخص ظَلَم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل . وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس . والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثباتَ نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ، ونقيضُ انتفاء الخوف حصول الخوف . والموجود بعد أداة الاستثناء أنه مغفور له فلا خلاف عليه . ويُفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسناً بعد سوء يخاف عذاب الآخرة .
أما الزمخشري فزاد على ما سلكه الفرّاء والزجاج فجعل ما صْدَق { من ظلم } رسولاً ظلم . والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعاً هو أحد الداعيين اللذين دعيا الفرّاء والزجاج وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضاً لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ما صْدَق { مَن ظلم } رسولاً من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل موسى وهو واحد منهم .
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله ( أي حين القيام بواجبات الرسالة ) لا يخافون شيئاً من المخلوقات لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب لأن الله تكفل لهم العصْمة . ولا يخافون عقاباً على الذنوب لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بَدَّل حسناً بعد سوء أمِن ممّا يُخاف من عقاب الذنوب لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه . فهذه معان دلّ عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز .
وفي « تفسير ابن عطية » أن أبا جعفر قرأ : { أَلاَ من ظلم } بفتح همزة ( أَلاَ ) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن أبي جعفر .
وفعل { بدّل } يقتضي شيئين : مأخوذاً ، ومُعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان ( 70 ) { فأولئك يبدِّل الله سيئاتهم حسنات } ، ويتعدّى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عَاوض كما قال تعالى : ولا تتبدّلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ، أي لا تأخذوا خبيث المال وتضيّعوا طيِّبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول امرىء القيس :
وبُدِّلت قُرحاً دامياً بعد صحة *** فيا لكِ من نُعمى تبدَّلْنَ أبؤسا
وكذلك قوله تعالى هنا : { ثم بدل حسناً بعد سوء } أي أخذ حسناً بسوء ، فإن كلمة { بعد } تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتاً ثم زال وخلفه غيره . وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى : { ثم بدلنا مكانَ السيئة الحسنة } [ الأعراف : 95 ] فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة .