الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

{ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } تتحرّك { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم ، وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة .

فإن قيل : كيف قال في موضع { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } وفي موضع آخر { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } والموصوف واحد ؟

قلنا : فيه وجهان :

أحدهما : أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان ، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم .

والآخر : أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته .

فلمّا رآها موسى ( عليه السلام ) { وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } ولم يرجع ، قال قتادة : ولم يلتفت .

فقال الله سبحانه { يمُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَن ظَلَمَ } فعمل بغير ما أمر { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً } قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين { بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية ، فقال الحسن وابن جريج : قال الله سبحانه ( يا موسى إنّما أخفتك لقتلك ) .

قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب ، ثم تذنب والله فتعاقب .

قال ابن جريج : فمعنى الآية : لا يخيف الله سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فقوله { إِلاَّ } على هذا التأويل استثناء صحيح ، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس ، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها ( فمن ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء فإنّي غفور رحيم )

وقال الفرّاء : يقول القائل : كيف صيّر خائفاً من ظلم ثم بدّل حُسناً بعد سوء وهو مغفور له ؟

فأقول له : في الآية وجهان :

أحدهما : أن تقول أنّ الرسل معصومة ، مغفور لها ، آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً من سائر الناس فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه .

والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأنّ المعنى { لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } إنما الخوف على غيرهم .

ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } يقول : كان مشركاً فتاب من الشرك وعمل حسنةً مغفور له وليس بخائف .

قال : وقد قال بعض النحوييّن : { إِلاَّ } ههنا بمعنى الواو يعني : ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه ( لئلاّ يكون للناس عليهم حجّة إلاّ الذين ظلموا منهم ) .

وقال بعضهم : قوله { إِلاَّ } ليس باستثناء من المرسلين لأنّه لا يجوز عليهم الظلم وإنّما معنى الآية : لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال الله سبحانه وتعالى عنه الخوف .