الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسۡنَۢا بَعۡدَ سُوٓءٖ فَإِنِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (11)

" إلا من ظلم " وقيل : إنه استثناء من محذوف ، والمعنى : إني لا يخاف لدي المرسلون وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم " ، إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " فإنه لا يخاف ، قاله الفراء . قال النحاس : استثناء من محذوف محال ؛ لأنه استثناء من شيء لم يذكر ، ولو جاز هذا لجاز إني لأضرب القوم إلا زيدا بمعنى إني لا أضرب القوم وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ، وهذا ضد البيان ، والمجيء بما لا يعرف معناه . وزعم الفراء أيضا أن بعض النحويين يجعل إلا بمعنى الواو أي : ولا من ظلم ، قال :

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمرُ أبيك إلا الفَرْقَدَانِ

قال النحاس : وكون " إلا " بمعنى الواو لا وجه له ولا يجوز في شيء من الكلام ، ومعنى " إلا " خلاف الواو ؛ لأنك إذا قلت : جاءني إخوتك إلا زيدا أخرجت زيدا مما دخل فيه الإخوة فلا نسبة بينهما ولا تقارب . وفي الآية قول آخر : وهو أن يكون الاستثناء متصلا ، والمعنى إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد ، سوى ما روي عن يحيى بن زكريا عليه السلام ، وما ذكره الله تعالى في نبينا عليه السلام في قوله : " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " [ الفتح : 2 ] ذكره المهدوي واختاره النحاس ؛ وقال : علم الله من عصى منهم يسر الخيفة{[12259]} فاستثناه فقال : " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له . الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام . الزمخشري : كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزه القبطي . فإن قال قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيل له : هذه سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وجلين ، وهم أيضا لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافون من المطالبة به . وقال الحسن وابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس . قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب . قال الثعلبي والقشيري والماوردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ، أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من صغيرة قبل النبوة . وكان موسى خاف من قتل القبطي وتاب منه . وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر . وقد مضى هذا في " البقرة " {[12260]} .

قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثا فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة . وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين " [ القصص : 17 ] ثم ابتلى من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فصار حدثا آخر بهذه الإرادة . وإنما ابتلي من الغد لقوله : " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ؛ لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه ف " قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس " [ القصص : 19 ] فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بذلك أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوما أمره لا يدري من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ، جاء رجل يسعى ف " قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك " [ القصص : 20 ] الآية . فخرج كما أخبر الله . فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ، فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولّت به ولم يعقب .


[12259]:الزيادة من " إعراب القرآن" للنحاس.
[12260]:راجع ج 1 ص 308 وما بعدها طبعة ثانية وثالثة.