قوله تعالى : { إن عدة الشهور } ، أي : عدد الشهور ، { عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله } ، وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأول وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة .
وقوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله . وقيل : في اللوح المحفوظ . قرأ أبو جعفر : اثنا عشر ، وتسعة عشر ، وأحد عشر ، بسكون الشين ، وقرأ العامة بفتحها ، { يوم خلق السماوات والأرض } ، والمراد منه : الشهور الهلالية ، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والهلالية تنقص عن ثلاث مائة وستين يوما بنقصان الأهلية . والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعا وخمسين يوما ، { منها أربعة حرم } ، من الشهور أربعة حرم وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد ، { ذلك الدين القيم } ، أي : الحساب المستقيم . { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } ، قيل : قوله { فيهن } ينصرف إلى جميع شهور السنة ، أي : فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة . وقيل : { فيهن } أي : في الأشهر الحرم . قال قتادة : العمل الصالح أعظم أجرا في الأشهر الحرم ، والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهن ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما . وقال ابن عباس : فلا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن . قال محمد بن إسحاق بن يسار : لا تجعلوا حلالها حراما ، ولا حرامها حلالا ، كفعل أهل الشرك وهو النسيء . وقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كافة } ، جميعا عامة ، { كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين } ، واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم . فقال قوم : كان كبيرا ثم نسخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } كأنه يقول فيهن وفي غيرهن . وهو قول قتادة ، وعطاء الخرساني ، والزهري وسفيان الثوري ، وقالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين ، وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة . وقال آخرون : إنه غير منسوخ : قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح : ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا أن يقاتلوا فيها وما نسخت .
{ 36 } وقوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
يقول تعالى { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ } أي : في قضائه وقدره . { اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } وهي هذه الشهور المعروفة { فِي كِتَابِ اللَّهِ } أي في حكمه القدري ، { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } وأجرى ليلها ونهارها ، وقدر أوقاتها فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر [ شهرا ] .
{ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } وهي : رجب الفرد ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، وسميت حرما لزيادة حرمتها ، وتحريم القتال فيها .
{ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثنى عشر شهرا ، وأن اللّه تعالى بين أنه جعلها مقادير للعباد ، وأن تعمر بطاعته ، ويشكر اللّه تعالى على مِنَّتِهِ بها ، وتقييضها لمصالح العباد ، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها .
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم ، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها ، خصوصا مع النهي عن الظلم كل وقت ، لزيادة تحريمها ، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها .
ومن ذلك النهي عن القتال فيها ، على قول من قال : إن القتال في الأشهر الحرام{[369]} لم ينسخ تحريمه عملا بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها .
ومنهم من قال : إن تحريم القتال فيها منسوخ ، أخذا بعموم نحو قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين برب العالمين .
ولا تخصوا أحدا منهم بالقتال دون أحد ، بل اجعلوهم كلهم لكم أعداء كما كانوا هم معكم كذلك ، قد اتخذوا أهل الإيمان أعداء لهم ، لا يألونهم من الشر شيئا .
ويحتمل أن { كَافَّةً } حال من الواو فيكون معنى هذا : وقاتلوا جميعكم المشركين ، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين .
وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } الآية . { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } بعونه ونصره وتأييده ، فلتحرصوا على استعمال تقوى اللّه في سركم وعلنكم والقيام بطاعته ، خصوصا عند قتال الكفار ، فإنه في هذه الحال ، ربما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين .
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، أخبرنا محمد بن سيرين ، عن أبي بَكْرَة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته ، فقال : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا ، منها أربعة [ حرم ، ثلاثة ]{[13464]} متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . ثم قال : " أي يوم هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس يوم النحر ؟ " قلنا ؛ بلى . ثم قال : " أي شهر هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليس ذا الحجة ؟ " قلنا : بلى . ثم قال : " أي بلد هذا ؟ " . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : " أليست البلدة ؟ " قلنا : بلى . قال : " فإن دماءكم وأموالكم - قال : وأحسبه قال : وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم ، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه{[13465]} {[13466]} ورواه البخاري في التفسير وغيره ، ومسلم من حديث أيوب ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة ، عن أبيه ، به{[13467]} وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا روح ، حدثنا أشعث ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان " {[13468]} ورواه البَزَّار ، عن محمد بن معمر ، به{[13469]} ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عَوْن وقُرَّة ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، به .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا زيد بن حُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة الربَذي ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : " أيها الناس ، إن الزمان قد استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، أولهن رَجَب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم " {[13470]}
وروى ابن مَرْدُويه من حديث موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمرو ، مثله أو نحوه .
وقال حماد بن سلمة : حدثني علي بن زيد ، عن أبي حُرّة{[13471]} حدثني الرقاشي ، عن عمه - وكانت له صحبة - قال : كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق ، أذود الناس عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " {[13472]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، تقرير منه ، صَلَوَات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كما قال في تحريم مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة " ، وهكذا قال هاهنا : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " أي : الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض .
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث : إن المراد بقوله : " قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء ، يحجون في كثير من السنين ، بل أكثرها ، في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء .
وأغرب منه ما رواه الطبراني ، عن بعض السلف ، في جملة حديث : أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر ، عام حجة الوداع ، والله أعلم .
[ حاشية فصل ]{[13473]} ذكر الشيخ علم الدين السَّخاوي في جزء جمعه سماه " المشهور في أسماء الأيام والشهور " : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه ؛ لأن العرب كانت تتقلب به ، فتحله عاما وتحرمه عاما ، قال : ويجمع على محرمات ، ومحارم ، ومحاريم .
صفر : سمي بذلك لخلو بيوتهم منه ، حين يخرجون للقتال والأسفار ، يقال : " صَفِرَ المكان " : إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال .
شهر ربيع أول : سمي بذلك لارتباعهم فيه . والارتباع الإقامة في عمارة الربع ، ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة ، كرغيف وأرغفة .
جمادى : سمي بذلك لجمود الماء فيه . قال : وكانت الشهور في حسابهم لا تدور . وفي هذا نظر ؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة ، ولا بد من دورانها ، فلعلهم سموه بذلك ، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر :
وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة *** لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها الطُّنُبَا
لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ *** حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه الذَّنَبَا
ويُجمع على جُمَاديات ، كحبارى وحُبَاريات ، وقد يذكر ويؤنث ، فيقال : جمادى الأولى والأول ، وجمادى الآخر والآخرة .
رجب : من الترجيب ، وهو التعظيم ، ويجمع على أرجاب ، ورِجَاب ، ورَجَبات .
شعبان : من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات{[13474]}
ورمضان : من شدة الرمضاء ، وهو الحر ، يقال : " رمضت الفصال " : إذا عطشت ، ويجمع على رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قال : وقول من قال : " إنه اسم من أسماء الله " ؛ خطأ لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إليه .
قلت : قد ورد فيه حديث ؛ ولكنه ضعيف ، وبينته في أول كتاب الصيام .
شوال : من شالت الإبل بأذنابها للطراق ، قال : ويجمع على شَوَاول وشَوَاويل وشَوَّالات .
القعدة : بفتح القاف - قلت : وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال والترحال ، ويجمع على ذوات القعدة .
الحجة : بكسر الحاء - قلت : وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة .
أسماء الأيام : أولها الأحد ، ويجمع على آحاد ، وأُحاد ووحود . ثم يوم الإثنين ، ويجمع على أثانين . الثلاثاء : يمد ، ويُذَكَّر ويؤنث ، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث . ثم الأربعاء بالمد ، ويجمع على أربعاوات وأرابيع . والخميس : يجمع على أخمسة وأخامس ، ثم الجمعة - بضم الميم ، وإسكانها ، وفتحها أيضا - ويجمع على جُمَع وجُمُعات .
السبت : مأخوذ من السَّبْت ، وهو القطع ؛ لانتهاء العدد عنده . وكانت العرب تسمي الأيام أول ، ثم أهون ، ثم جُبَار ، ثم دبار ، ثم مؤنس ، ثم العروبة ، ثم شيار ، قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين - :
أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي*** بأوّل أو بأهون أو جُبَار
أو التالي دُبَار فإن أفُْتهُ*** فمؤنس أو عروبةَ أو شيار
وقوله تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية{[13475]} تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم ، إلا طائفة منهم يقال لهم : " البَسْل " ، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر ، تعمقا وتشديدًا .
وأما قوله : " ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان ، [ فإنما أضافه إلى مضر ، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ]{[13476]} لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال ، وهو رمضان اليوم ، فبين ، عليه [ الصلاة و ]{[13477]} السلام ، أنه رجب مضر لا رجب ربيعة . وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد ؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل شهر الحج شهر ، وهو ذو القعدة ؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر ، وهو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : هذا هو الشرع المستقيم ، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم ، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول .
وقال تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : في هذه الأشهر المحرمة ؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي ، وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال : في الشهور كلها .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الآية { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } في كلِّهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما ، وعَظم حُرُماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .
وقال قتادة في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . قال : إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذِكْرَه ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فَعَظِّموا ما عظم الله ، فإنما تُعَظم الأمور{[13478]} بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل .
وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : بألا تحرموهن كحرمتهن{[13479]}
وقال محمد بن إسحاق : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك ، زيادة في الكفر { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [ التوبة : 37 ] .
وقوله : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أي : جميعكم{[13480]} { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعهم ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام : هل هو منسوخ أو محكم ؟ على قولين :
أحدهما - وهو الأشهر : أنه منسوخ ؛ لأنه تعالى قال هاهنا : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرًا عاما ، فلو كان محرما ما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام - وهو ذو القعدة - كما ثبت في الصحيحين : أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع فَلُّهم ، فلجئوا إلى الطائف - عَمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها{[13481]} فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .
والقول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام ، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [ الآية ]{[13482]} [ المائدة : 2 ] وقال : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } الآية[ البقرة : 194 ] وقال : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ الآية ] [ التوبة : 50 ]{[13483]} وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة ، لا أشهر التسيير على أحد القولين .
وأما قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله ، وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] وقال تعالى : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } الآية[ البقرة : 191 ] ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من{[13484]} تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما . وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة ، والله أعلم . ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك{[13485]} وقد حررنا ذلك في السيرة ، والله أعلم{[13486]}
هذه الآية والتي بعدها تتضمن ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحِل وتحليل شهور الحرمة ، وإذا نص ما كانت العرب تفعله تبين معنى الآيات فالذي تظاهرت به الروايات وينفك عن مجموع ما ذكر الناس ، أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها فكانوا إذا توالت عليهم حركة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم صعب عليهم وأملقوا ، وكان بنو فقيم{[5634]} من كنانة أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم عيه السلام ، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب ، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد بن حذيفة ، ثم خلف ابنه قلع بن عباد ، ثم خلفه ابنة أمية بن قلع ، ثم خلفه ابنه عوف بن أمية ، ثم خلفه ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام ، وذكر الطبري وغيره أن الأمر كان في عدوان قبل بني مالك بن كنانة ، وكانت صورة فعلهم أن العرب كانت إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين ، فقالوا أنسئنا شهراً أي آخّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ، قال مجاهد : ويسمون ذلك الصفر المحرم ، ثم يسمون ، ربيعاً ، ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول ، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حال لهم ، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم المحلل ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر ، ثم استقبال السنة كما ذكرنا ، ففي هذا قال الله عز وجل { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } أي ليست ثلاثة عشر شهراً ، قال الطبري حدثني ابن وكيع عن عمران بن عيينة عن حصين عن أبي مالك قال : كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً ، قال مجاهد : ثم كانوا يحجون في كل شهر عامين ولاء ، وبعد ذلك يبدلون ، فيحجون عامين ولاء ، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة ، وهم يسمونه ذا الحجة ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة ، فذلك قوله إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان{[5635]} وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطب في حجة الوداع فساق الحديث فقال فيه :«أولهن رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم » .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء في أكثر الكتب أنهم كانوا يجعلون حرمة المحرم في صفر ويسكت عن تمام القصة ، والذي ذكرناه هو بيانها ، وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة ، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء ، ولما كانت سنة العرب هلالية بدأ العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر ، وأما الأربعة الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » قصد التفريق بينه وبين ما كانت تفعله قبائل ربيعة بأسرها ، فإنها كانت تجعل رجبها رمضان وتحرمه ابتداعاً منها ، وكانت قريش ومن تابعها في ذلك من قبائل مضر على الحق ، فقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ونسبه إلى مضر إذ كان حكمه وتحريمه إنما كان من قبل قريش ، وفي المفضليات لبعض شعراء الجاهلي [ عوف بن الأحوص العامري ] : الوافر ]
وشهر بني أمية والهدايا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
****** . . {[5636]}
البيت ؛ قال الأصمعي : يريد رجباً ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «اثنا عْشر شهراً » بسكون العين{[5637]} وذلك تخفيف لتوالي الحركات ، وكذلك قرأ أحد عشر وتسعة عشر{[5638]} وقوله { في كتاب الله } أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ أو غيره ، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه وليست بمعنى قضائه وتقديره لأن تلك هي قبل خلق السموات والأرض ، «والكتاب » الذي هو المصدر هو العامل في { يوم } وفي قوله { في كتاب الله } متعلقة بمستقرة أو ثابتة ونحوه ، ويقلق أن يكون الكتاب القرآن في هذا الموضع ، وتأمل ، ولا يتعلق في بعده للتفرقة بين الصلة والموصول بخبر «إن »{[5639]} وقوله { منها أربعة حرم } نص على تفضيل هذه الأربعة وتشريفها ، قال قتادة : اصطفى الله من الملائكة والبشر رسلاً ومن الشهور المحرم ورمضان ، ومن البقع المساجد ، ومن الأيام الجمعة ، ومن الليالي ليلة القدر ، ومن الكلام ذكره فينبغي أن يعظم ما عظم الله ، وقوله { ذلك الدين القيم } ، قالت فرقة : معناه الحساب المستقيم ، وقال ابن عباس فيما حكى المهدوي : معناه القضاء المستقيم .
قال القاضي أبو محمد : والأصوب عندي أن يكون الدين ها هنا على أشهر وجوهه ، أي ذلك الشرع والطاعة لله ، { القيم } أي القائم المستقيم ، وهو من قام يقوم بمنزلة سيد من ساد يسود أصله قيوم ، وقوله { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الضمير عائد على ال { اثنا عشر شهراً } ، أي لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمن كله ، وقال قتادة : الضمير عائد على الأربعة الأشهر{[5640]} ، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها بالتخصيص والذكر وإن كان منهياً عنه في كل الزمن ، وزعم النحاة أن العرب تكنى عما دون العشرة من الشهور ، فيهن وعما فوق العشرة فيها ، وروي عن الكسائي أنه قال إني لأتعجب من فعل العرب هذا ، وكذلك يقولون فيما دون العشرة من الليالي خلون وفيما فوقها خلت وقال الحسن معنى فيهن أي بسببهن ومن جراهن في أن تحلوا حرامها وتبدلوه بما لا حرمة له ، وحكى المهدوي أنه قيل «لا تظلموا فيهن أنفسكم بالقتل » . ثم نسخ بفرض القتال في كل زمن ، قال سعيد بن المسيب في كتاب الطبري : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحرم القتال في الأشهر الحرم بما أنزل الله في ذلك حتى نزلت براءة .
قال القاضي أبو محمد : وقوله { وقاتلوا المشركين } معناه فيهن فأحرى في غيرهن ، وقوله { كافة } معناه جميعاً وهو مصدر في موضع الحال ، قال الطبري : كالعاقبة والعافية فهو على هذا كما تقول خاصة وعامة ، ويظهر أيضاً أنه من كف يكف أي جماعة تكف من عارضها ، وكذلك نقل الكافة أي تكف من خالفها ، فاللفظة على هذا اسم فاعل ، وقال بعض الناس : معناه يكف بعضهم بعضاً عن التخلف ، وما قدمناه أعم وأحسن ، وقال بعض الناس : كان الفرض بهذه الآية قد توجه على الأعيان ثم نسخ ذلك بعد وجعل فرض كفاية .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي قالوه لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر ، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله { كما يقاتلونكم } فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم ، وأما الجهاد الذي ينتدب إليه فإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به بعض الأمة سقط عن الغير ، وقوله { واعلموا أن الله مع المتقين } خبر في ضمنه أمر بالتقوى ووعد عليها بالنصر والتأييد .
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم }
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر ، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي ، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية ، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه ، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم .
والمقصود : ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها ، وأفضى إلى اختلاطها ، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها ، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها .
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها .
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ .
والمراد بالشهور : الشهور القمرية بقرينة المقام ، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم ، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال ، وتاريخِ الحوادث الماضية ، بمجرّد المشاهدة ، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض . قال تعالى : { لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل ، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات ، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة ، وجعلوها حساباً لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول ، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية ، وقد كان الحساب الشمسي معروفاً عند القبط والكلدانيين ، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر ، وتعيين الشمسية للأعياد ، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين ، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي . فألْهم الله البشر ، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم ، أن اتّخذوا نظاماً لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت ، وأن جعلوه مستنداً إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس ، لا تنحجب عنهم إلا قليلاً في قليل ، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة ، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظاماً مطرداً . وذلك كواكب السماء ومنازلها ، كما قال في بيان حكمة ذلك { هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق } [ يونس : 5 ] ، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستنداً إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم ، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر ، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك ، وبذلك تنظم اليومُ والليلة ، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالاً إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر ، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة ، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل .
وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد ، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة ، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهراً فسمّوا تلك المدّة عاماً ، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهراً ، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة ، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعاً للغلط ، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم ، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم ، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة ، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر ، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم ، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب ، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها ، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها ، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها ، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .
فمعنى قوله : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً } : أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر ، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً .
و { عند الله } معناه في حكمه وتقديره ، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد ، وهو ظرف معمول ل { عدّة } أو حال من { عدّة } و { في كتاب الله } صفة ل { اثنا عشر شهراً } .
ومعنى { في كتاب الله } في تقديره ، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات ، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله : { كتابا مؤجلا } [ آل عمران : 145 ] أي قدرا محدّداً ، فكتاب هنا مصدر .
بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال : { وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ولذلك قال هنا { يوم خلق السماوات والأرض } ف { يومَ } ظرف ل { كتاب الله } بمعنى التقدير الخاصّ ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض .
ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات ، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر ، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء ، منذُ كونِه هلالاً ، إلى رُبعه الأول ، إلى البدر ، إلى الربُع الثالث ، إلى المحاق ، وهي مقادير الأسابيع ، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض .
ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب ، التي تبدو للعين مجتمعة ، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع ، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعاً من أي وقت ابتُدىءَ منه العد من أوقات الفصول ، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية .
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلاً من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات ، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها ، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معاً .
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب ، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم ، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ ، ألا ترى قول لبيد :
حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً *** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية .
وقرأ الجمهور { اثنا عشر } بفتح شين { عشر } وقرأه أبو جعفر { اثنا عْشَرَ } بسكون عين { عشر } مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعاً .
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم : ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب ، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَباً ، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى ، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها ، وهي قضاعة . وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله : { منها أربعة حرم } « ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان »
وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس ، وإقامة الحجّ ، كما قال تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] .
واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس ، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة ، والأخلاق الكريمة ، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل ، الواقعة فيه ، أو المقارِنة له . فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه ، أو بإطْلاع على مراده ، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه ، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات ، أو مضاعفةِ الحسنات ، كما قال تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر } [ القدر : 3 ] أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام " والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن ، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله ، فقدَّرها ، فأشبهت الأمور الكونية ، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى ، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة ، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلاً في أوقات دينية : لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية ، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس .
الإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور : من عدّةِ الشهور الاثني عشر ، وعدّة الأشهر الحرم . أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل ، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة .
والدين : النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به ، أي يعامَلون بقوانينه . وتقدّم عند قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) ، كما وصف بذلك في قوله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [ الروم : 30 ] .
فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه { في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض } .
وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهراً حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله : { ذلك الدين القيم } ، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرماً اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي ، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية .
وجملة : { ذلك الدين القيم } معترضة بين جملة { إن عدة الشهور } وجملة { فلا تظلموا فيهن أنفسكم } .
{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ } .
تفريع على { منها أربعة حرم } فإنّها ، لما كانت حرمتها ممّا شرعه الله ، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها .
فالضمير المجرور ب { في } عائد إلى الأربعة الحرم : لأنّها أقرب مذكور ، ولأنّه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها ، وإلاّ لكان مجرّد اقتضاب بلا مناسبة ، ولأنّ الكسائي والفرّاء ادّعيا أنّ الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلّة من المؤنث مثل هُنّ كما قال هنا { فيهن } إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل ( ها ) يعاملان معاملة الواحد كما قال : { منها أربعة حرم } ومعلوم أنّ جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث ، وقال الكسائي : إنّه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي « خلون » وفيما فوقها « خَلَت » . وعن ابن عبّاس أنّه فسرّ ضمير فيهنّ بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده : فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعني أنّ حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية ، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين { فيها } و { فيهن } وأنّ الاختلاف بينهما في الآيةِ تفنُّن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعّد عليه ، فإنّ فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب ، فكان ظلماً للنفس قال تعالى : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله } [ النساء : 64 ] الآية وقال : { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } [ النساء : 110 ] .
والأنفس تحتمل أنّها أنفس الظالمين في قوله : { فلا تظلموا } أي لا يظلم كلّ واحد نفسه . ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي : أنّ الله جعلها مواقيت للعبادة ، فإن لم يكن أحد متلبّساً بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي ، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أنّ المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهياً عنها ، بل المراد أنّ المعصية فيها أعظم وأنّ العمل الصالح فيها أكثر أجراً ، ونظيره قوله تعالى : { ولا فسوق ولا جدال في الحج } [ البقرة : 197 ] فإنّ الفسوق منهي عنه في الحجّ وفي غيره .
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء ، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين ، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أنّ الأمّة كالنفس من الجسد على حدّ قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية ، وكقوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر ، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } [ المائدة : 97 ] وإنّما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيداً لمنطوق قوله : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] ولمفهوم قوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وهي مقيّدة بقوله : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } [ التوبة : 7 ] وقوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] . ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياماً من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم ، فاستمرّت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة ، وما كان ليكفّ القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أوّلَ مرّة ، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود .
والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور ، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة : فقال ابن المسيّب ، وابن شهاب ، وقتادة ، وعطاء الخراساني حَرَّمت الآية القتالَ في الأشهر الحرم ثم نُسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات ، فتكون هذه الآية مكمّلة لما بقي من مدّة حرمة الأشهر الحرم ، حتّى يعُمّ جميع بلاد العرب حكمُ الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضَربِ الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود .
وقال عطاء بن أبي رباح : يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلاّ أن يبدأ العدوّ فيها بالقتال ولا نسخ في الآية .
{ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .
أحسب أنّ موقع هذه الآية موقعُ الاحتراس من ظنّ أنّ النهيِ عن انتهاء الأشهر الحرم يَقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين ، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله : { كما يقاتلونكم كافة } فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي ، أو باعتدائكم على أعدائكم ، فإن هم بَادَأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم ، وتعليله بأنّهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين .
و { كافّة } كلمة تدلّ على العموم والشمول بمنزلة ( كلّ ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكَّد من أفراد وتثنية وجمع ، ولا من تذكير وتأنيث ، وكأنّه مشتق من الكفّ عن استثناء بعض الأفراد ، ومحلّها نصب على الحال من المؤكَّد بها ، فهي في الأول تأكيد لقوله { المشركين } وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين ، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنّه تبع لعموم الذوات ، أي كلّ فِرق المشركين ، فكلّ فريق وُجد في حالة مَّا ، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال ، فالمسلمون مأمورون بقتاله ، فمن ذلك : كلّ فريق يكون كذلك في الأشهر الحُرُم ، وكلّ فريق يكون كذلك في الحَرَم .
والكاف في { كما يقاتلونكم } أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلّته ، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] .
وجملة { واعلموا أن الله مع المتقين } تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين ، لأنّ المعية هنا معية تأييد على العمل ، وليست معية عِلم ، إذ لا تختصّ معيّة العلم بالمتّقين .
وابتدئت الجملةُ ب { اعلموا } للاهتمام بمضمونها كما تقدّم في قوله تعالى : { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، بحيث يجب أن يعلموه ويَعوه .
والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتّقين ، دون أن يقال واعلموا أنّ الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم ، فيفيد أنّ المتّصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين ، لئلا يكون ذكر جملة { واعلموا أن الله مع المتقين } غريباً عن السياق ، فيحصل من ذلك كلام مستقلّ يجري مجرى المثل وإيجازٌ يفيد أنّهم حينئذٍ من المتّقين ، وأنّ الله يؤيّدهم لتقواهم ، وأنّ القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى ، وأنّ المشركين حينئذٍ هم المعتدون على حرمة الأشهر ، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس .