قوله تعالى : { إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت } . أي : مددت
قوله تعالى : { إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } ، قال عبد الله بن عمر : وايم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه الحرج أن يبسط إلى أخيه يده ، وهذا في الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلباً للأجر ، كما فعل عثمان رضي الله عنه ، قال مجاهد : كتب الله في ذلك الوقت ، إذا أراد رجل قتل رجل أن لا يمتنع ويصبر .
ثم قال له مخبرا أنه لا يريد أن يتعرض لقتله ، لا ابتداء ولا مدافعة فقال :
{ لَئِن بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ } وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا . وإنما ذلك لأني { أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } والخائف لله لا يقدم{[262]} على الذنوب ، خصوصا الذنوب الكبار . وفي هذا تخويف لمن يريد القتل ، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه .
وقوله : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } يقول له أخوه الرجل الصالح ، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ } أي :{[9624]} لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة ، { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : من أن أصنع كما تريد أن تصنع ، بل أصبر وأحتسب .
قال عبد الله بن عمرو : وايم الله ، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج ، يعني الورع .
ولهذا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار " . قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . {[9625]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا لَيْثُ بن سعد ، عن عَيَّاش{[9626]} بن عباس ، عن بكير بن عبد الله ، عن بُسْر بن سعيد{[9627]} ؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي " . قال : أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني قال : " كن كابن آدم " .
وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد{[9628]} وقال : هذا الحديث حسن ، وفي الباب عن أبي هريرة ، وخَباب بن الأرت ، وأبي بَكْرَة{[9629]} وابن مسعود ، وأبي واقد ، وأبي موسى ، وخَرَشَة . ورواه بعضهم عن الليث بن سعد ، وزاد في الإسناد رجلا .
قال الحافظ ابن عساكر : الرجل هو حسين الأشجعي .
قلت : وقد رواه أبو داود من طريقه فقال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي ، حدثنا المفضل ، عن عياش بن عباس{[9630]} عن بُكَيْر ، عن بُسْر بن سعيد{[9631]} عن حسين{[9632]} بن عبد الرحمن الأشجعي ؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال : فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كن كابن آدم " وتلا يزيد : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }{[9633]}
قال أيوب السَّخْتَياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه . رواه ابن أبي حاتم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا مَرْحوم ، حدثني أبو عمران الجَوْني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه ، وقال : " يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ، كيف تصنع ؟ " . قال : قال الله ورسوله أعلم . قال : " تعفف " قال : " يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد ، ويكون البيت فيه بالعبد ، يعني القبر ، كيف تصنع ؟ " قلت : الله ورسوله أعلم . قال : " اصبر " . قال : " يا أبا ذر ، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا ، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء ، كيف تصنع ؟ " . قال : الله ورسوله أعلم . قال : " اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك " . قال : فإن لم أتْرَك ؟ قال : " فأت من أنت منهم ، فكن فيهم{[9634]} قال : فآخذ سلاحي ؟ قال : " إذًا تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يروعك{[9635]} شعاع السيف ، فألق طرف ردائك على وجهك حتى{[9636]} يبوء بإثمه وإثمك " . {[9637]}
رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي ، من طرق عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت به{[9638]} ورواه أبو داود وابن ماجه ، من طريق حماد بن زيد ، عن أبي عمران ، عن المُشَعَّث{[9639]} بن طريف ، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر{[9640]} بنحوه . {[9641]}
قال أبو داود : ولم يذكر المشعث{[9642]} في هذا الحديث غير حماد بن زيد .
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن رِبْعِيّ قال : كنا في جنازة حُذَيفة ، فسمعت رجلا يقول : سمعت هذا يقول في ناس : مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري ، فلألجنَّه ، فلئن دخل{[9643]} عَليّ فلان لأقولن : ها{[9644]} بؤ بإثمي وإثمك ، فأكون كخير ابني آدم .
{ لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين } قيل : كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله سبحانه وتعالى لأن الدفع لم يبح بعد ، أو تحريا لما هو الأفضل قال عليه الصلاة والسلام : " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " . وإنما قال : { ما أنا بباسط } في جواب { لئن بسطت } للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأسا ، والتحرز من أن يوصف به ويطلق عليه ولذلك أكد النفي بالباء .
واختلف الناس لم قال هابيل : { ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } ؟ فقال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً وأن لا يمتنع من أريد قتله . . وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ، ولكنه تحرج .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا هو الأظهر ، ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ، لأنه لو كان كافراً لم يكن للتحرج وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحداً ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه .