قوله تعالى : { إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها } ، فإن قيل : أي : زينة في الحيات والعقارب والشياطين ؟ قيل : فيها زينة على معنى أنها تدل على وحدانية الله تعالى . وقال مجاهد : أراد به الرجال خاصة ، وهم زينة الأرض . وقيل : أراد بهم العلماء والصلحاء . وقيل : الزينة بالنبات والأشجار والأنهار ، كما قال : { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت } [ يونس – 24 ] { لنبلوهم } لنختبرهم { أيهم أحسن عملاً } أي : أصلح عملاً . وقيل : أيهم أترك للدنيا .
{ 7-8 } { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا }
يخبر تعالى : أنه جعل جميع ما على وجه الأرض ، من مآكل لذيذة ، ومشارب ، ومساكن{[483]} طيبة ، وأشجار ، وأنهار ، وزروع ، وثمار ، ومناظر بهيجة ، ورياض أنيقة ، وأصوات شجية ، وصور مليحة ، وذهب وفضة ، وخيل وإبل ونحوها ، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار ، فتنة واختبارا . { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي : أخلصه وأصوبه ، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات ، فانية مضمحلة ، وزائلة منقضية .
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } .
قال قتادة ، عن أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الدنيا خضرة حلوة{[17976]} وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا{[17977]} ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " {[17978]}
وقوله : إنّا جَعَلْنا ما عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا يقول عزّ ذكره : إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً يقول : لنختبر عبادنا أيّهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ما عَلى الأرضِ زِينَةً لَهَا قال : ما عليها من شيء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَهَا ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «إنّ الدّنيْا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، وَإنّ اللّهَ مُسْتَخْلِفَكُمْ فِيها ، فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، فاتّقُوا الدّنيْا ، واتّقُوا النّساءَ » .
وأما قوله : لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو عاصم العسقلاني ، قال : لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً قال : أترك لها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْض زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُمْ أحْسَنُ عَمَلاً اختبارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي .
وقوله { إنا جعلنا ما على الأرض زينة } ، الآية بسط في التسلية أي لا تهتم للدنيا وأهلها فأمرها وأمرهم أقل بفنائه وذهابه ، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة وامتحاناً وخبرة ، واختلف في المراد ، ب { ما } ، فقال ابن جبير عن ابن عباس : أراد الرجال وقاله مجاهد ، وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والعلماء والأمراء ، وقالت فرقة أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه ، ونحو هذا مما فيه زينة ، ولم يدخل في هذا الجبال الصم وكلا ما لا زين فيه كالحيات والعقارب ، وقالت فرقة : أراد كل ما على الأرض عموماً وليس شيء إلا فيه زينة من جهة خلقه وصنعته وإحكامه . وفي معنى هذه الآية ، قول النبي عليه السلام : «الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء »{[7746]} و { زينة } مفعول ثاني أو مفعول من أجله بحسب معنى «جعل »{[7747]} . وقوله { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } أي لنختبرهم وفي هذا وعيد ما ، قال سفيان الثوري : { أحسنهم عملاً } أزهدهم فيها ، وقال أبو عاصم العسقلاني : أحسن عملاً : أترك لها .
قال القاضي أبو محمد : وكان أبي رضي الله عنه يقول : أحسن العمل أخذ بحق واتفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم ، والإكثار من المندوب إليه .
مناسبة موقع هذه الآية هنا خفية جداً أعوز المفسرين بيانُها ، فمنهم ساكت عنها ، ومنهم محاول بيانها بما لا يزيد على السكوت .
والذي يبدو : أنها تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على إعراض المشركين بأن الله أمهلهم وأعطاهم زينة الدنيا لعلهم يشكرونه ، وأنهم بطروا النعمة ، فإن الله يسلب عنهم النعمة فتصير بلادهم قاحلة . وهذا تعريض بأنه سيحل بهم قحط السنين السبع التي سأل رسولُ الله ربه أن يجعلها على المشركين كسنين يوسف عليه السلام .
ولهذا اتصال بقوله : { لينذر بأساً شديداً من لدنه } [ الكهف : 2 ] .
وموقع ( إن ) في صدر هذه الجملة موقع التعليل للتسلية التي تضمنها قوله تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم } [ الكهف : 6 ] .
ويحصل من ذلك تذكير بعضهم قدرة الله تعالى ، وخاصة ما كان منها إيجاداً للأشياء وأضدادها من حياة الأرض وموتها المماثل لحياة الناس وموتهم ، والمماثل للحياة المعنوية والموت المعنوي من إيمان وكفر ، ونعمة ونقمة ، كلها عِبَر لمن يعتبر بالتغير ويأخذ الأهبة إلى الانتقال من حال إلى حال فلا يثق بقوته وبطشه ، ليقيس الأشياء بأشباهها ويعرض نفسه على معيار الفضائل وحسنى العواقب .
وأوثر الاستدلال بحال الأرض التي عليها الناس لأنها أقرب إلى حسهم وتعقلهم ، كما قال تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } [ الغاشية : 17 20 ] ، وقال : { وفي الأرض آيات للموقنين } [ الذاريات : 20 ] .
وقد جاء نظم هذا الكلام على أسلوب الإعجاز في جمع معاننٍ كثيرة يصلح اللفظ لها من مختلف الأغراض المقصودة ، فإن الإخبار عن خلق ما على الأرض زينةً يجمع الامتنان على الناس والتذكير ببديع صنع الله إذ وضع هذا العالم على أتقن مثال ملائم لما تحبه النفوس من الزينة والزخرف . والامتنان بمثل هذا كثير ، مثل قوله : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] ، وقال : { زين للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] .
ولا تكون الأشياء زينة إلا وهي مبثوثة فيها الحياة التي بها نماؤها وازدهارها . وهذه الزينة مستمرة على وجه الأرض منذ رآها الإنسان ، واستمرارها باستمرار أنواعها وإن كان الزوال يَعرض لأشخاصها فتخلفها أشخاص أخرى من نوعها . فيتضمن هذا امتناناً ببث الحياة في الموجودات الأرضية .
ومن لوازم هذه الزينة أنها توقظ العقول إلى النظر في وجود منشئها وتسبُر غورَ النفوس في مقدار الشكر لخالقها وجاعلها لهم ، فمِن موففٍ بحق الشكر ، ومقصر فيه وجاحد كافرٍ بنعمة هذا المنعم ناسبٍ إياها إلى غير موجدها . ومن لوازمها أيضاً أنها تثير الشهوات لاقتطافها وتناولها فتستثار من ذلك مختلِف الكيفيات في تناولها وتعَارُض الشهوات في الاستيثار بها مما يفضي إلى تغالب الناس بعضهم بعضاً واعتداء بعضهم على بعض .
وذلك الذي أوجد حاجتهم إلى الشرائع لتضبط لهم أحوال معاملاتهم ، ولذلك عُلل جعل ما على الأرض زينة بقوله : لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } ، أي أفْوَتَ في حسن العمل مِن عمل القلب الراجع إلى الإيمان والكفر ، وعلم الجسد المتبدي في الامتثال للحق والحَيدة عنه .
فمجموع الناس متفاوتون في حسن العمل . ومن درجات التفاوت في هذا الحسن تُعلم بطريق الفحوى درجةُ انعدام الحُسن من أصله وهي حالة الكفر وسوء العمل ، كما جاء في حديث « . . مَثَل المنافق الذي يقرَأ القرآن ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن » . والبَلْو : الاختبار والتجربة . وقد تقدم عند قوله تعالى : { هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت } في سورة يونس ( 30 ) . وهو هنا مستعار لتعلق علم الله التنجيزي بالمعلوم عند حصوله بقرينة الأدلة العقلية والسمعية الدالة على إحاطة علم الله بكل شيء قبل وقوعه فهو مستغنٍ عن الاختبار والتجربة . وفائدة هذه الاستعارة الانتقال منها إلى الكناية عن ظهور ذلك لكل الناس حتى لا يلتبس عليهم الصالح بضده . وهو كقول قيس بن الخطيم :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا *** لأعْلَم مَن جَبَانُها من شُجاعها