اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا} (7)

قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } الآية .

قال القاضي{[20814]} : وجه النَّظم كأنه يقول : يا محمد ، إنِّي خلقتُ الأرض ، وزينتها ، وأخرجتُ منها أنواع المنافع والمصالح ، وأيضاً ، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ، ثم إنَّهم يكفرون ويتمرَّدون ، ومع ذلك ، فلا أقطع عنهم موادَّ هذه النِّعم ، فأنت أيضاً يا محمد لا يهمُّك الحزن ؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدِّين .

قوله : { زِينَةً } : يجوز أن ينتصب على المفعول له ، وأن ينتصب على الحال ، إن جعلت " جَعلْنَا " بمعنى " خَلقْنَا " ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، إن كانت " جَعَلَ " تصييرية ، و " لها " متعلق ب " زَينةً " على العلَّة ، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول ، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ صفة ل " زينةً " .

وقوله : " لنَبْلُوهُمْ " متعلق ب " جَعلْنَا " بمعنييه .

قوله : " أيُّهمْ أحْسنُ " يجوز في " أيُّهُمْ " وجهان :

أحدهما : أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء ، و " أحسنُ " خبرها ، والجملة في محلِّ نصب متعلقة ب " نَبْلُوهُمْ " لأنه سببُ العلم ، والسؤال ، والنظر .

والثاني : أنَّها موصولة بمعنى الذي و " أحْسَنُ " خبر مبتدأ مضمرٍ ، والجملة صلة ل " أيُّهمْ " ويكون هذا الموصول في محلِّ نصبٍ بدلاً من مفعول " لنَبْلُوهُمْ " تقديره لِنَبلُو الذي هو أحسنُ ؛ وحينئذٍ تحتمل الضمة في " أيُّهم " أن تكون للبناء ، كهي في قوله تعالى : { لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] على أحد الأقوالِ ، وفي قوله : [ المتقارب ]

إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مالكٍ *** فَسلِّمْ عَلى أيُّهُم أفْضَلُ{[20815]}

وشرط البناء موجودٌ ، وهو الإضافة لفظاً ، وحذف صدر الصلة ، وهذا مذهب سيبويه{[20816]} ، وأن تكون للإعراب ؛ لأنَّ البناء جائزٌ لا واجبٌ ، ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذًّا { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم .

والضمير في " لِنبلوهُمْ " و " أيُّهم " عائد على ما يفهم من السِّياق ، وهم سكان الأرض . وقيل : يعود على ما على الأرض ، إذا أريد بها العقلاء ، وفي التفسير : المراد بذلك الرُّعاة{[20817]} . وقيل : العلماء والصلحاء والخلفاء{[20818]} .

فصل في المقصود بالزينة

اختلفوا في تفسير هذه الزينة ، فقيل{[20819]} : النَّبات ، والشجر ، والأنهار .

كما قال تعالى : { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } [ يونس : 24 ] وضمَّ بعضهم إليه الذَّهب ، والفضَّة ، والمعادن ، وضمَّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان ، فإن قيل : أي زينة في الحيَّات والعقارب [ والشياطين ]{[20820]} .

فالجواب : فيها زينةٌ ؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على وحدانيَّة الله تعالى .

وقال مجاهد{[20821]} : أراد الرجال خاصَّة هم زينة الأرض .

وقيل : أراد به العلماء والصلحاء .

وقيل : أراد به الناس .

وبالجملة ، فليس في الأرض إلاَّ المواليد الثلاثة ، وهي المعادن ، والنبات ، والحيوان ، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان .

قال القاضي{[20822]} : الأولى ألاَّ يدخل المكلَّف في هذه الزِّينة ؛ لأنَّ الله تعالى قال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم } فمن يبلوهم يجب ألاَّ يدخل في ذلك .

وأجيب بأن قوله : { زِينَةً لَّهَا } أي للأرض ، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها ، كما جعل الله السَّماء مزينة بالكواكب .

وقوله : { لِنَبْلُوَهُمْ } لنختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، أي : أصلح عملاً .

وقيل : أيُّهم أترك للدُّنيا .

فصل

ذهب هشام بن الحكم إلى أنَّه تعالى لا يعلم الحوادث إلاَّ عند دخولها في الوجود ، فعلى هذا : الابتلاءُ والامتحانُ على الله جائز ؛ واحتجَّ بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيَّات قبل وقوعها ، لكان كلُّ ما علم وقوعه واجب الوقوعِ ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوعِ ، وإلاَّ لزم انقلابُ علمه جهلاً ، وذلك محالٌ ، والمفضي إلى المحال محالٌ ، ولو كان ذلك واجباً ، فالذي علم وقوعه يجبُ كونه فاعلاً له ، ولا قدرة له على التَّرك ، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ، ولا قدرة له على الفعل ، وعلى هذا يلزم ألاَّ يكون الله قادراً على شيءٍ أصلاً ، بل يكون موجباً بالذَّات .

وأيضاً ، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل ، ولا على التركِ ؛ لأنَّ ما علم الله وقوعه ، امتنع من العبد تركه ، وما علم عدمه ، امتنع منه فعله ، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها ، يقدح في الربوبيَّة ، وفي العبوديَّة ، وذلك باطلٌ ؛ فثبت أنَّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها ، أي عند ذلك ، وعلى هذا التقدير ، فالابتلاءُ والامتحانُ والاختبار غير جائز عليه ، وعند هذا قال : يجرى قوله : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } على ظاهره .

وأمَّا جمهور علماء الإسلام ، فقد استبعدوا هذا القول ، وقالوا : إنه تعالى من الأزل إلى الأبدِ عالمٌ بجميع الجزئيَّات ، والابتلاءُ والامتحان عليه محال ، وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة ، لو صدرت عن غيره ، لكانت على سبيل الابتلاءِ والامتحانِ .

فصل في تعليل أفعال الله تعالى

قالت المعتزلةُ : دلَّت هذه الآية ظاهراً على أنَّ أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض وقال أهل السنة : هذا محالٌ ؛ لأنَّ التعليل بالغرض إنَّما يصحُّ في حقِّ من لا يصحُّ منه تحصيل ذلك الغرض ، إلاَّ بتلك الواسطة ، وهذا يقتضي العجز ، وهو على الله تعالى محالٌ .


[20814]:ينظر: الفخر الرازي 21/68.
[20815]:البيت لغسان بن وعلة. ينظر: شرح المفصل لابن يعيش 3/147، المغني 1/78، أوضح المسالك 1/75، الإنصاف 2/382، التصريح 1/135، الهمع 1/84، شواهد المغني 81، الأشموني/ 166، الخزانة 6/61، الدرر 1/60، حاشية يس 1/135، الدر المصون 4/435.
[20816]:ينظر: الكتاب 1/397-398.
[20817]:في ب: الرجال.
[20818]:سقط من أ.
[20819]:ينظر: الفخر الرازي 21/68.
[20820]:في أ: وأشياء
[20821]:ينظر: معالم التنزيل 3/144.
[20822]:ينظر: الفخر الرازي 21/68.