قوله تعالى : { فأوحى } أي : أوحى الله ، { إلى عبده ما أوحى } محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس في رواية عطاء ، والكلبي ، والحسن ، والربيع ، وابن زيد : معناه : أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه عز وجل . قال سعيد بن جبير : أوحى إليه : { ألم يجدك يتيماً فآوى }( الضحى-6 ) إلى قوله : { ورفعنا لك ذكرك }( الشرح-4 ) وقيل : أوحى إليه : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
وقوله : فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه ، وجعلوا قوله : ما أوْحَى بمعنى المصدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى قال : عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه .
وقد يتوجه على هذا التأويل «ما » لوجهين : أحدهما : أن تكون بمعنى «الذي » ، فيكون معنى الكلام فأوحى إلى عبده الذي أوحاه إليه ربه . والاَخر : أن تكون بمعنى المصدر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام قال : ثني أبي ، عن قتادة فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى ، قال الحسن : جبريل .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى قال : على لسان جبريل .
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى قال : أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه .
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : معنى ذلك : فأوحى جبريل إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه ، لأن افتتاح الكلام جرى في أوّل السورة بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن جبريل عليه السلام ، وقوله : فأوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى فِي سِياقِ ذلكَ ولم يأت ما يدلّ على انصراف الخبر عنهما ، فيوجه ذلك إلى ما صرف إليه .
{ فأوحى } جبريل عليه السلام . { إلى عبده } عبد الله وإضماره قبل الذكر لكونه معلوما كقوله : { على ظهرها } { ما أوحى } جبريل عليه السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه ، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعنى بتشديد القوى كما في قوله تعالى :{ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشراشره إلى جناب القدس .
وقوله تعالى : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، قال ابن عباس المعنى : { فأوحى } الله { إلى عبده } جبريل { ما أوحى } . وفي قوله : { ما أوحى } إبهام على جهة التفخيم والتعظيم ، والذي عرف من ذلك فرض الصلاة ، وقال الحسن المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى كالأولى في الإبهام ، وقال ابن زيد المعنى : فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى الله إلى جبريل .
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوءة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه ، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم " فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] ، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه « جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه » إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته ، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله : « إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد » الحديث ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل ؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . وقوله : { أو أدنى } { أو } فيه للتخيير في التقدير ، وهو مستعمل في التقريب ، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى ، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه .
وتفريع { فأوحى إلى عبده ما أوحى } على قوله : { فتدلى فكان قاب قوسين } المفرّع على المفرّع على قوله : { علمه شديد القوى } ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له ، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبينّ لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً ، وهذه كيفية من صور الوحي .
وضمير { أوحى } عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله : { إن هو إلا وحي يوحى } كما تقدم ، والمعنى : فأوحى الله إلى عَبده محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كافٍ في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإِيحاء لإِبطال إنكارهم إياه .
وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان { عبده } إظهار في مقام الإِضمار في اختصاص الإِضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.