فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَأَوۡحَىٰٓ إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ} (10)

{ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى( 9 ) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى( 11 ) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى( 12 ) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى( 13 ) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ( 14 )عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى( 18 ) } .

ثم اقترب جبريل من محمد ، فكان من النبي الكريم مقدار قاب قوسين- قدر قوسين عربيتين- وقيل{ أو } بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى ، وقيل : بمعنى بل ، أي بل أدنى ، والقاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ، فأخبر أن جبريل قرب من محمد كقرب قاب قوسين ، وقيل : قدر ذراعين ، والقوس : الذراع يقاس بها كل شيء ، فأوحى جبريل بأمر ربه إلى محمد عبد الله ورسوله ما أوحاه- تفخيم للوحي الذي أوحي إليه- والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ، ومنه قول المولى تبارك اسمه { إنا أنزلناه في ليلة القدر }{[5776]} ؛ ما كذب فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما رآه من جلال ونور مولاه ، أو ما شاهده من صورة جبريل عليه السلام ؛ أفتجادلون محمد على ما رآه ، أو ما يراه ؟ ولقد رأى النبي ربه عز وجل ؛ أو رأى جبريل في صورته مرة ثانية عند شجرة في السماء عظيمة إليها ينتهي علم العلماء ومنازل الشهداء ، وعندها جنة المستقر ، وما أعجب ما يغشى تلك الشجرة ويغطيها من البهاء ؛ وما اعوج بصر النبي ولا مال عما رآه ، ولا تجاوزه بل تحراه وما تعداه ؛ وقسما قد رأى من دلائل قدرة ربه وبرهان حكمه علامات وآية كبرى .

أقول غير ما تقدم : فعن الحسن أن { شديد القوى } هو الله تعالى ، وجمع القوى للتعظيم ، ويفسر{ ذو مرة } – عليه- بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل ، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى : { فاستوى . وهو بالأفق الأعلى }- عليه- له سبحانه أيضا ، وقال : إن ذلك على معنى العظمة والقدرة والسلطان ، ولعل[ الحسن ] يجعل الضمائر في قوله سبحانه : { ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى } له عز وجل أيضا ، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى : { ولقد رآه نزلة أخرى } فقد كان عليه رحمة الله تعالى يحلف بالله تعالى : لقد رأى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ربه ، وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله عليه وسلم برفع مكانته . . وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه .

ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه ؛ وجوز أن تكون الضمائر في{ دنا فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى }- على ما روي عن الحسن- للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد : ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه فكان منه عز وجل { قاب قوسين أو أدنى } . . وأَمْرُ المتشابه قد عُلِمَ ؛ وذهب غير واحد في قوله تعالى : { علمه شديد القوى } إلى قوله سبحانه : { وهو بالأفق الأعلى } إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام . . وفي قوله تعالى : { ثم دنا فتدلى } الخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجانب الأقدس ، ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا ، فالضمائر في { دنا فتدلى } و{ كان }و{ أوحى } وكذا الضمير المنصوب في { رآه } الله عز وجل ، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن البخاري من طريق شريك بن عبد الله : ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ؛ ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة . . الحديث ، فإنه ظاهر فيما ذكر . . [ . . أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنّى أراه " ]{[5777]} .

[ قوله تعالى : { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وذلك أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده حتى رأى ربه تعالى وجعل الله تلك رؤية . . . { أفتمارونه } . . أي أتجادلونه وتدافعونه في أنه رأى الله ؟ ]{[5778]} .


[5776]:سورة القدر الآية1.
[5777]:مابين العارضتين مما أورد صاحب روح المعاني.
[5778]:مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن.