هذا مثل ضربه اللّه لمن عبد معه غيره ، يقصد به التعزز والتَّقَوِّي والنفع ، وأن الأمر بخلاف مقصوده ، فإن مثله كمثل العنكبوت ، اتخذت بيتا يقيها من الحر والبرد والآفات ، { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ } أضعفها وأوهاها { لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة ، وبيتها من أضعف البيوت ، فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا ، كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء ، فقراء عاجزون من جميع الوجوه ، وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم ، ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم ، ووهنا إلى وهنهم .
فإنهم اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم ، وألقوها عليهم ، وتخلوا هم عنها ، على أن أولئك سيقومون بها ، فخذلوهم ، فلم يحصلوا منهم على طائل ، ولا أنالوهم من معونتهم أقل نائل .
فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم ، حالهم وحال من اتخذوهم ، لم يتخذوهم ، ولتبرأوا منهم ، ولتولوا الرب القادر الرحيم ، الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه ، كفاه مئونة دينه ودنياه ، وازداد قوة إلى قوته ، في قلبه وفي بدنه وحاله وأعماله .
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، يرجون نصرهم ورزقهم ، ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه{[22591]} فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمَنْ يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه شيئا ، فلو عَلموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله ، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه مستمسك{[22592]} بالعروة الوثقى لا انفصام لها ، لقوتها وثباتها .
ثم قال تعالى متوعدا لِمَنْ عبد غيره وأشرك به : إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ، ويعلم ما يشركون به من الأنداد ، وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مثل الذين اتخذوا الاَلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم ، وقبح رواياتهم ، وسوء اختيارهم لأنفسهم ، كمَثلِ العنكبوت في ضعفها ، وقلة احتيالها لنفسها ، اتخذت بيتا لنفسها ، كيما يُكِنّها ، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه ، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله ، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا ، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياءَ كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتا . . . إلى آخر الاَية ، قال : ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره ، إن مثله كمثل بيت العنكبوت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلياءَ كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ قال : هذا مثل ضربه الله للمشرك مثَلُ إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ أوْلِياء كمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتا قال : هذا مثل ضربه الله ، لا يغني أولياؤهم عنهم شيئا كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا .
وقوله : وإنّ أوْهَنَ البُيُوتِ يقول : وإن أضعف البيوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول تعالى ذكره : لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء ، يعلمون أن أولياءهم الذين اتخذوهم من دون الله في قلة غنائهم عنهم ، كغناء بيت العنكبوت عنها ، ولكنهم يجهلون ذلك ، فيحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى .
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } فما اتخذوه معتمدا ومتكلا . { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } فيما نسجته في الوهن والخور بل ذاك أوهن فإن لهذا حقيقة وانتفاعا ما ، أو مثلهم بالإضافة إلى رجل بنى بيتا من حجر وجص ، والعنكبوت يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، والتاء فيه كتاء طاغوت ويجمع على عناكيب وعناكب وعكاب وعكبة وأعكب . { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } لا بيت أوهن وأقل وقاية للحر والبرد منه . { لو كانوا يعلمون } يرجعون إلى علم لعلموا أن هذا مثلهم وأن دينهم أوهن من ذلك ، ويجوز أن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم سماه به تحقيقا للتمثيل فيكون المعنى : وإن أوهن ما يعتمد به في الدين دينهم .
شبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ب { العنكبوت } التي تبني وتجتهد وأمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة أذهبته فكذلك أمر أولئك وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد ، ومن حديث ذكره النقاش «العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه »{[9254]} ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر » ، وقوله { لو كانوا يعلمون } ، أي { يعلمون } أن هذا مثلهم وأن حالهم ونسبتهم من الحق هذه الحال{[9255]} .