مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

ثم قال تعالى : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } .

لما بين الله تعالى أنه أهلك من أشرك عاجلا وعذب من كذب آجلا ، ولم ينفعه في الدارين معبوده ولم يدفع ذلك عنه ركوعه وسجوده ، مثل اتخاذه ذلك معبودا باتخاذ العنكبوت بيتا لا يجير آويا ولا يريح ثاويا ، وفي الآية لطائف نذكرها في مسائل :

المسألة الأولى : ما الحكمة في اختيار هذا المثل من بين سائر الأمثال ؟ فنقول فيه وجوه الأول : أن البيت ينبغي أن يكون له أمور : حائط حائل ، وسقف مظل ، وباب يغلق ، وأمور ينتفع بها ويرتفق ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من أحد أمرين . إما حائط حائل يمنع من البرد وإما سقف مظل يدفع عنه الحر ، فإن لم يحصل منهما شيء فهو كالبيداء ليس ببيت لكن بيت العنكبوت لا يجنها ولا يكنها وكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق وجر المنافع وبه دفع المضار ، فإن لم تجتمع هذه الأمور فلا أقل من دفع ضر أو جر نفع ، فإن من لا يكون كذلك فهو والمعدوم بالنسبة إليه سواء ، فإذن كما لم يحصل للعنكبوت باتخاذ ذلك البيت من معاني البيت شيء ، كذلك الكافر لم يحصل له باتخاذ الأوثان أولياء من معاني الأولياء شيء الثاني : هو أن أقل درجات البيت أن يكون للظل فإن البيت من الحجر يفيد الاستظلال ويدفع أيضا الهواء والماء والنار والتراب ، والبيت من الخشب يفيد الاستظلال ويدفع الحر والبرد ولا يدفع الهواء القوي ولا الماء ولا النار ، والخباء الذي هو بيت من الشعر أو الخيمة التي هي من ثوب إن كان لا يدفع شيئا يظل ويدفع حر الشمس لكن بيت العنكبوت لا يظل فإن الشمس بشعاعها تنفذ فيه ، فكذلك المعبود أعلى درجاته أن يكون نافذ الأمر في الغير ، فإن لم يكن كذلك فيكون نافذ الأمر في العابد ، فإن لم يكن فلا أقل من أن لا ينفذ أمر العابد فيه لكن معبودهم تحت تسخيرهم إن أرادوا أجلوه وإن أحبوا أذلوه الثالث : أدنى مراتب البيت أنه إن لم يكن سبب ثبات وارتفاق لا يصير سبب شتات وافتراق ، لكن بيت العنكبوت يصير سبب انزعاج العنكبوت ، فإن العنكبوت لو دام في زاوية مدة لا يقصد ولا يخرج منها ، فإذا نسج على نفسه واتخذ بيتا يتبعه صاحب الملك بتنظيف البيت منه والمسح بالمسوح الخشنة المؤذية لجسم العنكبوت ، فكذلك العابد بسبب العبادة ينبغي أن يستحق الثواب ، فإن لم يستحقه فلا أقل من أن لا يستحق بسببها العذاب ، والكافر يستحق بسبب العبادة العذاب .

المسألة الثانية : مثل الله اتخاذهم الأوثان أولياء باتخاذ العنكبوت نسجه بيتا ولم يمثله بنسجه وذلك لوجهين أحدهما : أن نسجه فيه فائدة له ، لولاه لما حصل وهو اصطيادها الذباب به من غير أن يفوته ما هو أعظم منه ، واتخاذهم الأوثان وإن كان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ، لكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت الوجه الثاني : هو أن نسجه مفيد لكن اتخاذها ذلك بيتا أمر باطل فكذلك هم لو اتخذوا الأوثان دلائل على وجود الله وصفات كماله وبراهين على نعوت إكرامه وأوصاف جلاله لكان حكمة ، لكنهم اتخذوها أولياء كجعل العنكبوت النسج بيتا وكلاهما باطل .

المسألة الثالثة : كما أن هذا المثل صحح في الأول فهو صحيح في الآخر ، فإن بيت العنكبوت إذا هبت ريح لا يرى منه عين ولا أثر بل يصير هباء منثورا ، فكذلك أعمالهم للأوثان كما قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } .

المسألة الرابعة : قال : { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } ولم يقل آلهة إشارة إلى إبطال الشرك الخفي أيضا ، فإن من عبد الله رياء لغيره فقد اتخذ وليا غيره فمثله مثل العنكبوت يتخذ نسجه بيتا .

ثم قال تعالى : { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } .

إشارة إلى ما بينا أن كل بيت ففيه إما فائدة الاستظلال أو غير ذلك ، وبيته يضعف عن إفادة ذلك لأنه يخرب بأدنى شيء ولا يبقى منه عين ولا أثر فكذلك عملهم لو كانوا يعلمون .