روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِيَآءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَيۡتٗاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُيُوتِ لَبَيۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ} (41)

{ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } استئناف متضمن تقبيح حال أولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير الله عز وجل ، وفيه إشارة إلى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون الله عز وجل الأوثان .

وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلاً ومعتمداً آلهة كان ذلك أو غيرها ، ولذا عدل إلى أولياء من آهلة أي صفتهم أو شبههم { كَمَثَلِ العنكبوت } أي كصفتها أو شبهها .

{ اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } بيانا لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه ، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت } الخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه ، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة ، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال ، والجملة من تتمة الوصف . واللام في البيوت للاستغراق ، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتاً والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها ، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم ، وإن شئت فقل : إنها اتخذت بيتاً في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلاً في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه ، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالاً من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس ، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة { العنكبوت } أي التي اتخذت ، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه ، وعليه لا يوقف على العنكبوت ، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر . والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتاً بالإضافة إلى رجل بني بيتاً بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبارة الأوثان ، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية ، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه ، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وإدماج توطيد الآخر ، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت } جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه ، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي .

وقال «صاحب الكشف » : كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله : وكما أن أوهن البيوت الخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول ، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية ، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من «تفسيره » ، وهذه مجازفة على «صاحب الكشاف » كما لا يخفى ، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمداً ومتكلاً في دينهم وتولوه من دون الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتاً ، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه ، وكذلك في الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذا بالأسر ، والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها ، ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتماد ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : { إن أَوْهَنَ البيوت } تذييلاً يقرر الغرض من التشبيه .

وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها ، فكأنه قيل : وإن أو عن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان ، وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه ، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به ، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها ، ونظير ذلك قولك : زيد في الكلام بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعاراً للكريم ، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته ، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه ، ولأن هذا إنما يتميز عن الإلغاز بعد سبق التشبيه .

وجوز أن يكون قوله تعالى : { مَثَلُ الذين } الخ كالمقدمة الأولى ، وقوله سبحانه : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت } كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف ، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل ، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام ، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك ، لا لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلى الله عليه وسلم : " العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها " فإنه كما ذكر الدميري ضعيف .

وقيل : لا يسن قتلها فقد أخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن " ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور ، والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به ، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة ، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها ، وفي هذا بعد . وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة ، وذكر أنه بحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسند الثعلبي . وابن عطية وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإنه تركه في البيوت يورث الفقر » وهذا إن صح عن الإمام كرم الله تعالى وجهه فذاك ، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها . والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعلوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، ومن استعماله مذكراً قوله :

على هطالهم منهم بيوت *** كأن العنكبوت هو ابتناها

واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد ، وذهب إلى تأنيثه أيضاً فذكر أنه اختير هنا تأنيثه لأنه المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه ، وقال مولانا الخفاجي معرضاً به : الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى : { الذين } وأما افراد البيت فلأن المراد الجنس ، ولذلك أنث { اتخذت } لا لأن المراد المؤنث ، وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباة والعكنباة والعنكبوة والعنكباء ، والذكر عنكب وهي عنكبة ، وجمعه عنكبوتات وعناكب ، والعكاب . والعكب والأعكب أسماء الجموع ، وتعقب بأن عد ما عدا ما ذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن أعكب لا يصح فيه ذلك ، وذكروا في جمعه أيضاً عناكيب ، واختلف في نونه فقيل أصلية ، وقيل : زائدة كالتاء ، وجمعه على عكاب يدل على ذلك . وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع : وزنه فناعل وفي آخر فعالل ، فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلظ اه المراد منه ، ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقاً من الكعب بالفتج بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند فراره أطلق عليه اسم العنكبوت { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كانوا يعلمون شيئاً من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن ، وقيل : أي لو كانوا يعلمون وهن الأوثان لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى ، وفي الكشف أن قوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرناها فيما مر من الايغال ، جعلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلاً أنهم لا يعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة ، و { لَوْ } شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا إليه ، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر .

ومن باب الإشارة : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } [ العنكبوت : 1 4 ] أشار سبحانه وتعالى إلى من اعتمد على غير الله عز وجل في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه ، قال ابن عطاء : من اعتمد شيئاً سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه ، ومن اتخذ سواه عز وجل ظهيراً قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته .