معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون من دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر ، شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .

قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً } . اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد لقتل الصيد مع نسيان الإحرام . أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . هذا قول مجاهد والحسن ، وقال الآخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة ، واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، وقال الزهري : على المتعمد بالكتاب ، وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن جبير : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .

قوله تعالى : { فجزاء مثل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب { فجزاء } منون ، مثل رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة { فجزاء مثل }

قوله تعالى : { ما قتل من النعم } ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها ، من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .

قوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ، ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : حكموا في بلدان مختلفة ، وأزمان شتى بالمثل من النعم . فحكم حاكمهم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة وهي لا يساوي بقرة . وفي الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً ، فدل أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة ، وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة ، والقمري ، والدبسي . وروي عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم : أنهم قضوا في حمام مكة بشاة .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر ابن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .

قوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ، ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم .

قوله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } . قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر ، المثل من جنسه ، والعدل بالفتح ، المثل من غير جنسه . وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً ، وله أن يصوم حيث شاء ، لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ، ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد ، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر ، أو صاع من شعير يوماً . وقال الشعبي والنخعي : جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .

قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } أي : جزاء معصيته .

قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية .

قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة .

قوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال نعم ، لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج ، وهو واد بالطائف ، واختلفوا في المحرم ، هل يجوز له أكل لحم الصيد ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس ، وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ، ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن ابن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حماراً وحشياً ، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا ، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم ) ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر ابن عبد الله رضي الله عنه .

وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض ، أو طائر دون الحمام ، ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد : فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا : هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

ثم حرج بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون في الحج والعمرة ، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله ، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام .

وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي : قتل صيدا عمدا { ف } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به . والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة ، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله ، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات ، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يذبح في الحرم .

{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } أي : كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين ، أي : يجعل مقابلة المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين .

قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره . { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما . { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق ، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد . وأما المخطئ فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء ، [ هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله . وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية . والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله ، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم ]{[278]}


[278]:- ما بين القوسين زيادة من هامش أ، وجاء في هامش ب بدلا منها بخط المؤلف: (هذا قول جمهور العلماء، والصحيح ما صرحت به الآية أنه لا جزاء على غير المتعمد كما لا إثم عليه).
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءا بالنهي مختوما بالتهديد مرة أخرى :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره . عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . .

إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدا . فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمدا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلا تجزى ء فيها نعجة أو عنزة . والأيل تجزى ء فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزى ء فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالها يجزى ء فيه أرنب ، وما لا مقابل له من البهيمة يجزى ء عنه ما يوازي قيمته . .

ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديا حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين ؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد [ خلاف فقهي ] . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدرا ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن ؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .

وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :

( ليذوق وبال أمره ) . .

ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدا كبيرا : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :

( عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) .

فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام !

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

استئناف لبيان آية : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } [ المائدة : 94 ] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكماً لم يبق به عمل . وتقدّم القول في معنى { وأنتم حرم } في طالع هذه السورة [ المائدة : 1 ] .

واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين : حال كون الصائد محرِماً ، وحال كون الصيد من صيد الحرم ، ولو كان الصائد حلالاً ؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى ، فكانت بيت الله وحماه ، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه . قال النابغة :

والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ يمسحُها *** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد

فالتحريم لصيد حيوان البرّ ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر . ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة ، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة . وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان ، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم ، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم .

والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه . ويلحق بالصيد الوحوش كلّها . قال ابن الفرس : والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ ، كما يقال : بئس الرميَّة الأرنب ، وإن لم ترم بعد . وخصّ من عمومه ما هو مضرّ ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير . ودليل التخصيص السنّة . وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام ، وهذا مورد الآية ، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد ، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد . ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم .

وقوله : { وأنْتم حُرُم } حُرُم جمع حرام ، بمعنى مْحرم ، مثل جمع قذال على قذل ، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة . ويطلق المحرم على الكائن في الحرم . قال الراعي :

قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرماً

أي كائناً في حرم المدينة . فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم ، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة . وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده . فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق . وفي صيده الجزاء . وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه ، ومثله الطائف عند الشافعي .

وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام ، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب . وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر ( جبل ) إلى ثور " قيل : هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة . قال النووي : أكثر الرواة في كتاب « البخاري » ذكروا عيَراً ، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال : من عير إلى كذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ . وقيل : إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني . وقيل : ثور جبل صغير وراء جبل أحُد .

وقوله : { ومن قتله منكم } الخ ، ( مَن ) اسم شرط مبتدأ ، و { قتله } فعل الشرط ، و { منكم } صفة لاسم الشرط ، أي من الذين آمنوا . وفائدة إيراد قوله { منكم } أعرض عن بيانها المفسّرون . والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية ، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه ، كما تقدّم آنفاً .

وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد ، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء ، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل .

وقوله { متعمّداً } قيد أخرج المخطىء ، أي في صيده . ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة . قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطىء أنّهما يكفّران . ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة . وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وجمهور فقهاء الأمصار : إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء ، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم ، أي قاسه على الغُرم . والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما . ومضى بذلك عمل الصحابة .

وقال أحمد بن حنبل ، وابن عبد الحكم من المالكية ، وداوود الظاهري ، وابن جبير وطاووس ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء ، ومجاهد : لا شيء على الناسي . وروي مثله عن ابن عباس .

وقال مجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وابن جريج : إن كان متعمّداً للقتل ناسياً إحرامه فهو مورد الآية ، فعليه الجزاء . وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه ، وصيده جيفة لا يؤكل .

والجزاء العوض عن عمل ، فسمّى الله ذلك جزاء ، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار .

وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه . وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام ، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء . وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده .

وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه { ليذوق وبال أمره } . وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء ، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى : { جزاءاً وفاقاً } [ النبأ : 26 ] .

وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد ، وذلك المثل من النعم ، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير ، وأكثر صيد العرب من الدوابّ ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز ، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده ، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض ، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها ، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة . وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة ؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة ، والإوز يقارب السخلة ، وهكذا . وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة . وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد . والقيمة عند مالك طعام . وقال أبو حنيفة : دارهم . فإذا كان المصير إلى القيمة ؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به ، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً ، ولكسر المدّ يوماً كاملاً . وقال أبو حنيفة : يشتري بالقيمة هدياً إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاماً ، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً .

وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزىء في الضحايا والهدايا . فقال مالك : لا يجزىء أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال : { هدياً بالغ الكعبة } . فما لا يجزىء أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء ، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام .

وقال مالك في « الموطأ » : وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره . وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة . وقال الشافعي وبعض علماء المدينة : إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في « الموطأ » عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة . قال الحفيد ابن رشد في كتاب « بداية المجتهد » : وذلك ما روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود اهـ .

وأقول : لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } . فإنّ ذلك من دلالة الإشارة ، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة ، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام ، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزىء في الهدايا . فمن العجب قول ابن العربي : إنّ قول الشافعي هو الصحيح ، وهو اختيار علمائنا . ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا . والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام . ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها ، خلافاً لداوود الظاهري ، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع ، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله .

وقرأ جمهور القرّاء { فجزاء مثل ما قتل } بإضافة { جزاء } إلى { مثل } ؛ فيكون { جزاء } مصدراً بدلاً عن الفعل ، ويكون { مثلُ ما قتل } فاعل المصدر أضيف إليه مصدره . و { من النعم } بيان المثل لا ل { مَا قتَلَ } . والتقدير : فمثل ما قتل من النعم يجزىء جزاء ما قتله ، أي يكافىء ويعوّض ما قتله . وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي . ولك أن تجعل الإضافة بيانية ، أي فجزاء هو مثل ما قتل ، والإضافة تكون لأدنى ملابسة . ونظيره قوله تعالى : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] . وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] ، أي فليحرّر رقبة . وجعله صاحب « الكشاف » من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي فليجز مثلَ ما قتلَ . وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل ( جزى ) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه . تقول : جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهماً ، ولا تقول : جزيْت كذا درهماً بما أتلفته ، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ ( مثل ) مقحماً . ونظّروه بقولهم : « مثلك لا يبخل » ، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري . وسكت صاحب « الكشاف » عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام « الكشاف » على لزوم جعل لفظ { مثل } مقحماً وأنّ الكلام على وجه الكناية ، يعني نظير { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وكذلك ألزمه إياه التفتزاني ، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل . وهو اعتذار ضعيف .

فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله . وقد اجترأ الطبري فقال : أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي .

وقرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي ، وخلف { فجزاءٌ مثلُ } بتنوين ( جزاء ) . ورفع ( مثل ) على تقدير : فالجزاء هو مثلُ ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول ، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد .

وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } جملة في موضع الصفة ل { جواء } أو استئناف بياني ، أي يحكم بالجزاء ، أي بتعيينه . والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين . وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما . ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام ، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره .

وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم مع كعب بن مالك ، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان . ووُصف { ذوا عدل } بقوله : { منكم } أي من المسلمين ، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء .

وقوله : { هدياً بالغ الكعبة } حال من { مثل ما قتل } ، أو من الضمير في ( به ) . والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة . والمنحر : منى والمروة . ولما سمّاه الله تعالى { هدياً } فله سائر أحكام الهدي المعروفة . ومعنى { بالغ الكعبة } أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة ، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة .

وقوله : { أو كفّارة طعام مساكين } عطف على { فجزاء } وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء ، إذ الجزاء هو العوض ، وهو مأخوذ فيه المماثلة . وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة . وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين . فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين ، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد ، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين . وهو قول الأكثر من العلماء . وعن ابن عباس : تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً . وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد . قال مالك : أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام ، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين . ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام . فعن ابن عباس : تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين ، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً ، وحمار الوحش بثلاثين ، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين .

و { أو } في قوله { أو كفارة طعام مساكين } وقوله : { أو عدل ذلك } تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة . وكذلك كل أمر وقع ب« أو » في القرآن فهو من الواجب المخيّر . والقول بالتخيير هو قول الجمهور ، ثم قيل : الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين . وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير ، وقيل : الخيار للحكمين . وقال به الثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن . ومن العلماء من قال : إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء ، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام ، فهي عندهم على الترتيب . ونسب لابن عباس .

وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { كفّارةُ } بالرفع بدون تنوين مضافاً إلى طعام كما قرأ { جزاءُ مثلِ ما قتلَ } . والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى : { فجزاء مثلِ ما قتل } فنجعل { كفارة } اسم مصدر عوضاً عن الفعل وأضيف إلى فاعله ، أي يكفّره طعامُ مساكين ؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية ، أي كفّارة من طعام ، كما يقال : ثوبُ خزّ ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان ، فالكفّارة بيّنها الطعام ، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع . وجزم بهذا الوجه في « الكشاف » ، وفيه تكلَّف . وقرأه الباقون بتنوين { كفارةٌ } ورفع { طعامُ } على أنّه بدل من { كفارة } .

وقوله { أو عدْل ذلك صياماً } عطف على { كفّارة } والإشارة إلى الطعام . والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه . وأصل معنى العدل المساواة . وقال الراغب : إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا . وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات ، وقيل : هما مترادفان . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى { طعام مساكين } . وانتصب { صياماً } على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير .

وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام ، وهو موكول إلى حكم الحكمين . وقال مالك والشافعي : يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً . وقال أبو حنيفة : عن كلّ مُدَّين يوماً ، واختلفوا في أقصى ما يصام ؛ فقال مالك والجمهور : لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين ، وقال بعض أهل العلم : لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات . وعن ابن عباس : يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة .

وقوله { ليذوق } متعلّق بقوله { فجزاء } ، واللاّم للتعليل ، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره .

والذوق مستعار للإحساس بالكدر . شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك ، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة ، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك . وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم ، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات . ففي القرآن { ذق إنّك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، { لا يذوقون فيها الموت } [ الدخان : 56 ] . وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة « ذق عُقق » . وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة ، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] .

والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ ، والوبيل القوي في السوء { فأخذناه أخذاً وبيلا } [ المزمل : 16 ] . وطعام وبيل : سيّء الهضم ، وكلأ وبيل ومستوبل ، تستولبه الإبل ، أي تستوخمه . قال زهير :

إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ

والأمر : الشأن والفعل ، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً . والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب .

وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال : { عفا الله عمّا سلف } ، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه .

والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ ، وهو الخسارة أو التعب ، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم ، وهذا قول الجمهور . وعن ابن عباس ، وشريح ، والنخعي ، ومجاهد ، وجابر بن زيد : أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء . وهذا شذوذ .

ودخلت الفاء في قوله : { فينتقم الله منه } مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي ، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب ، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي ، فالتقدير : فهو ينتقم الله منه ، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره ، أو لقصد التقوّي ، أي تأكيد حصول هذا الانتقام . ونظيره { فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً } [ الجن : 13 ] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز . هذا قول المحقّقين مع توجيهه ، ومن النحاة من قال : إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء ، وإنّه جاء على خلاف الغالب .

وقوله : { والله عزيز ذو انتقام } تذييل . والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر ، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام ، أي لأنّ من صفاته الحكمة ، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها .