فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

قوله : { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام ، وفي معناه { غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم ، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم ، وأحرم الرجل : دخل في الحرم . قوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُتَعَمّداً } المتعمد : هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام ، والمخطئ : هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً ، والناسي : هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه . وقد استدل ابن عباس ، وأحمد في رواية ، وداود عنه باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره ، بل لا تجب إلا عليه وحده . وبه قال سعيد بن جبير ، وطاوس ، وأبو ثور . وقيل : إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد ، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب ، روي عن عمر ، والحسن ، والنخعي ، والزهري ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم ، وروي عن ابن عباس . وقيل : إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه ، وبه قال مجاهد ، قال : فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حلّ ، ولا حج له ، لارتكابه محظور إحرامه ، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها .

قوله : { فَجَزَاء مثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } أي فعليه جزاء مماثل لما قتله ، و{ من النعم } بيان للجزاء المماثل . قيل : المراد المماثلة في القيمة ، وقيل : في الخلقة . وقد ذهب إلى الأوّل : أبو حنيفة ، وذهب إلى الثاني : مالك والشافعي وأحمد والجمهور ، وهو الحق لأن البيان للمماثل بالنعم يفيد ذلك ، وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة . وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل ، وأن المحرم مخير . وقرئ «فَجَزَاؤُهُ مثْلُ مَا قَتَلَ » وقرئ «فَجَزَاء مثْلُ » على إضافة جزاء إلى مثل ، وقرئ بنصبهما على تقدير فليخرج جزاء مثل ما قتل ، وقرأ الحسن «النعم » بسكون العين تخفيفاً . { يَحْكُمُ بِهِ } أي بالجزاء أو بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ منْكُمْ } أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين ، فإذا حكما بشيء لزم ، وإن اختلفا رجع إلى غيرهما ، ولا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين وقيل يجوز ، وبالأوّل قال أبو حنيفة ، وبالثاني قال الشافعي في أحد قوليه : وظاهر الآية يقتضي حكمين غير الجاني .

قوله : { هَدْياً بالغ الكعبة } نصب هدياً على الحال ، أو البدل من مثل ، و { بالغ الكعبة } صفة لهدياً ؛ لأن الإضافة غير حقيقية ، والمعنى : أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك ، والإشعار والتقليد ، ولم يرد الكعبة بعينها ، فإن الهدي لا يبلغها ، وإنما أراد الحرم ، ولا خلاف في هذا . قوله : { أَوْ كَفَارَة } معطوف على محل من النعم : وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، و { طَعَامُ مساكين } عطف بيان لكفارة ، أو بدل منه ، أو خبر مبتدأ محذوف { أَو عَدْلُ ذلك } معطوف على طعام . وقيل هو معطوف على جزاء ، وفيه ضعف ، فالجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة ، وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، و{ صِيَاماً } منصوب على التمييز ، وقد قرّر العلماء عدل كل صيد من الإطعام والصيام ، وقد ذهب إلى أن الجاني يخير بين الأنواع المذكورة جمهور العلماء . وروي عن ابن عباس أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي . والعدل بفتح العين وكسرها لغتان ، وهما الميل قاله الكسائي . وقال الفراء : عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه ، وبفتح العين مثله من غير جنسه ، وبمثل قول الكسائي قال البصريون .

قوله : { ليَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } عليه لإيجاب الجزاء : أي أوجبنا ذلك عليه ليذوق وبال أمره ، والذوق مستعار لإدراك المشقة ، ومثله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } والوبال : سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل : الذي يتأذى به بعد أكله ، وطعام وبيل : إذا كان ثقيلاً . قوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد . وقيل عما سلف قبل نزول الكفارة { وَمَنْ عَادَ } إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد بعد هذا البيان { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } خبر مبتدأ محذوف ؛ أي فهو ينتقم الله منه .

وقيل المعنى : إن الله ينتقم منه في الآخرة فيعذبه بذنبه . وقيل : ينتقم منه بالكفارة . قال شريح وسعيد بن جبير : يحكم عليه في أوّل مرة ، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له : اذهب ينتقم الله منك : أي ذنبك أعظم من أن يكفر .

/خ99