{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا } شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب ، والتصريح بالنهي في قوله تعالى : { لاَ تَقْتُلُوا الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } مع كونه معلوماً لاسيما من قوله تعالى : { غَيْرَ مُحِلّي الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ } لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه ، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف ، وحُرُم جمع حَرام ، وهو المُحرم وإن كان في الحِل ، وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً ، كرُدُح جمع رَادح ، والجملة حال من فاعل لا تقتلوا ، أي لا تقتلوه وأنتم محرمون { وَمَن قَتَلَهُ } أي الصيد المعهود ، وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة { منكُمْ } متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم . { مُتَعَمّداً } حال منه أيضاً أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله ، والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أن الآية نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ، ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ ، وعن الزُهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . وعن سعيد بن جُبير رضي الله عنه : لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية ، وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن : أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام ، أما إذا قتله عمْداً وهو ذاكرٌ لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله عز وجل ، لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة . { فَجَزَاء مثلُ مَا قَتَلَ } برفعهما ، أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله ، وقرئ برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر ، وقرئ بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله ، وقرئ ( فجزاؤه مثلُ ) ما قتل على الابتداء والخبرية ، وقرئ بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل ، والمرادُ به عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما المثلُ باعتبار القيمة ، يُقوَّم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه ، فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتريَ بها قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم ، وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً ، فإن فضل ما لا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً ، إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى : { مِنَ النّعم } بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير ، فإنَّ من فعل ذلك يصدُق عليه أنه جُزيَ بمثل ما قتل من النَّعم ، وعن مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما : هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنَّعم ، فمن اعتبَر المِثْل بالقيمة فقد خالف النص ، وعن الصحابة رضي الله عنهم : أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً ، وفي الظبْيِ شاةً ، وفي حمار الوَحش بقرَةً ، وفي الأرنب عَناقاً ، وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : «الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله المُحرم » ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل ، والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى ، وإما المثلُ معنى . وأما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً ، وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهوداً في الشرع كما في حقوق العباد ، ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع ، ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل ، قال تعالى : { فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتِها وسهولةِ مراعاتِها فَلأَنْ لا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ ، مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها ، أولى وأحرى ، ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً ، إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات ، والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين ، ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه ، لكن لا باعتبار أن يعمِدَ الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً ، بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها ، فقوله تعالى : { مثلُ مَا قَتَلَ } وصفٌ لازم للجزاء ، غيرُ مفارِقٍ عنه بحال ، وأما قوله تعالى : { مِنَ النعم } فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول الذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام ، فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى . ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل : { يَحْكُمُ بِهِ } أي بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ منْكُمْ } أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس ، فإن ذلك ناشئ من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة ، بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه ، من أساطينِ أئمة الاجتهاد ، وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد ، إلا المؤيدون بالقوة القدسية ، ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث أن كلاًّ منهما يعُبّ ويهدِر ، مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون{[190]} ، فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدْلين من آحاد الناس ؟ على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص ، فبعد ما عُيِّن ، بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد ، نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً . وقرئ ( يحكم به ذو عدل ) على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة ، وقيل : بل على إرادة الإمام ، والجملة صفة لجزاءٌ أو حال منه لتخصصه بالصفة ، وقوله تعالى : { هَدْياً } حال مقدرة من الضمير في ( به ) ، أو في ( جزاء ) لما ذكر من تخصصه بالصفة ، أو بدلٌ من ( مثل ) فيمن نصبه ، أو مِنْ محله فيمن جرَّه ، أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً ، والجملة صفة أخرى لجزاء . { بالغ الكعبة } صفةٌ ( لهدياً ) لأن الإضافة غير حقيقية { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على محل ( من النعم ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملةُ صفة ثانية ( لجزاء ) كما أشير إليه ، وقوله تعالى : { طَعَامُ مساكين } عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف ، أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف ، أي هي طعام مساكين ، وقوله تعالى : { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } عطف على طعام الخ ، كأنه قيل : فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ أيامٍ بعددهم ، فحينئذ تكون الماثلةُ وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام ، أما الأولان فبلا واسطة ، وأما الثالث فبواسطة الثاني ، فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن ، هذا وقد قيل : إن قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } عطف على ( جزاء ) فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام ، والالتجاءُ إلى القياس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى ، هذا على قراءة ( جزاء ) بالرفع على سائر القراءات ، فقوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ } خبر مبتدأ محذوفٍ ، والجملة معطوفة على جملة هو ( من النعم ) . وقرئ أو ( كفارةُ طعامِ مساكين ) بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرئ طعامُ مِسْكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرئ ( أو عِدْل ) بكسر العين ؛ والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام ؛ وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار ؛ كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول ؛ وذلك إشارة إلى الطعام و( صياماً ) تمييز للعَدْل ، والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله . { ليَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور ، أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ ، وقيل : بفعل يدل عليه الكلام ، كأنه قيل : شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ ، والوبال في الأصل : المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة مَنْ عمل سوءاً لثِقَله ، ومنه قوله تعالى : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل ، الآية 16 ] ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وقيل : عما سلف منه في الجاهلية ، لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن ، الآية 13 ] أي فذلك لا يخاف الخ ، وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } [ البقرة : 126 ] أي فأنا أمتعه ، والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة ، وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر { والله عَزِيزٌ } غالب لا يُغالَب { ذُو انتقام } شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء .