تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم )

أي وأنتم محرمون . الآية في ظاهرها على قتل الصيد كله . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص في أشياء ، أذن في قتلها ؛ فيُقال : في خمس من الدّواب لا جناح على من قتلهنّ ، وهو محرم في الحرم : الحِدَأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور .

وعن عائشة رضي الله عنها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحِلّ والحرم : الحِدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور . وفي بعض النسخ والأخبار : والذئب ، فيحتمل أن يكون العقور : الذئب .

وروي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عما يقتل المحرم ، فقال : «الحية والعقرب والفويسقة والغراب والغيلة والكلب العقور والسبع العادي » [ أبو داود 1848 ] ، والكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس ، وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والذئب . وما كان [ من ] [ ساقطة من الأصل وم ] السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والحر وما أشبههن فلا يقتلهن المحرم فإن هو قتل شيئا منهن فداه . وإن قتل شيئا من الطير سوى ما ذكر في الخبر فعليه جزاؤه .

وفي بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] [ ساقطة من الأصل وم ] قال : «يقتل المحرم الفأرة فإنها توهن المَشْقَأَ » [ بنحوه البخاري 1827 و1828 ] . وقال بعض الناس : ما قتل المحرم من السباع الذي [ في الأصل وم . التي ] لا يؤكل لحمه فلا فدية عليه . فكان تاركا لظاهر الآية ، وهو قوله تعالى : [ لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ] .

فإن احتج بحديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص للمحرم في قتل خمس من الدّواب ، وذلك ما لا يؤكل لحمه ، قيل : أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتل الخمس لعلّة أنه لا يؤكل لحمها ؟ فإن قال : نعم ، قيل : ما الدليل على ذلك ؟ فإن قال : لأنها لا تؤكل ؛ فكلّ ما لا يؤكل من الصيد فقتله مباح . فيقال له : قولك : لا يؤكل ، ليس بعلّة ؛ لأن ذلك لا يزول ، لا يتغيّر . والعلة هي التي تحدث في وقت ، وتزول في وقت .

ولو كان قول القائل : لا يؤكل ، علة في ما لا يؤكل ، كان قوله : يؤكل ، علة في ما يؤكل ، وكان الشيء علة لنفسها . وهذا بين الخطإ . وإذا لم يكن تحريم أكل الخمسة التي أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلها للمحرم علة في إطلاق قتلها كان القياس عليها على ما لا يحل أكله مخطئا لأن القياس إنما يكون على العلل . وما لا علة فيه لا يجوز القياس عليه .

وعندنا أن هذه الخمسة المسماة تبتدئ المحرم وغيره بالأذى ، وإن لم يبتدئها المحرم . وما سوى ذلك مما لا يؤكل لحمه لا يكاد يبتدئ بالأذى حتى يبتدئها الإنسان ، فحينئذ تعرض له .

وبيان ذلك أن الحدأة ربما أغارت على اللحم ، تراه في يدي الرجل ، والغراب يسقط على دبر الدابة[ في الأصل وم : الدواب ] ، فيفسده ، والعقرب تقصد من تلدغه ، وتتبع حسه ، والكلب العقور لا يكاد يهرب من الناس كما تهرب السباع غيره .

فأما الضبع والخنزير والكلب والذئب وأشباهها فهي ترهب من بني آدم ، ولا تكاد تؤذيهم حتى يبتدئها بالأذى .

جعلنا العلة في ما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم قتله ما يعرف من قصدها لأذى المحرم ، وأن يؤذيها المحرم إن كان معروفا فيها معلوما أنه أكثر شأنها . فلما لم يكن في سائر الطير المحرمة والسباع هذه العلة ، وكان المعروف فيها أنها لا تبتدئ بالأذى لم يجز أن تشبه بالخمسة المسماة في الخبر . فإذا ابتدأ منها مبتدئ المحرم بالأذى كان حينئذ مثل الخمسة ، فجاز له قتلها بغير فدية .

وبعد فإن الذي لا يؤكل لحمه يسمى صيدا . والصيادون يصيدونه ، فكان داخلا تحت عموم الخطاب . ومخالفنا تارك لأصله في العموم لأنه خص الآية بغير دليل .

وأصحابنا ، رحمهم الله ، يجعلون الصيد كله محظورا أكل أو لم يؤكل إلا ما عدا منها فإن قتله قبل أن يعدو عليه لزمه الفداء . ذهبوا في ذلك إلى ما روي في الخبر خبر أبي سعيد [ الخذري ][ ساقطة من الأصل وم ] رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يقتل المحرم كذا وكذا والسبع العادي . فالعادي ما يعدو على المحرم ، وإلى ما روي عن علي بن طالب رضي الله عنه ، وغيره مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل على المحرم قتل ضبعا جزاءه . وكذلك عن عمر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وهي مما لا تؤكل .

وعن جابر [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع ، فقال : هو صيد ، وفيه كبش . وعن عمر رضي الله عنه كذلك ، وابن عباس وابن عمر رضي الله عنه كذلك .

وقوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) اختلف في الآية في تأويلها على وجهين :

فأحدهما : من جعل الآية على ظاهرها فلم يوجب في الخطإ كفارة . عن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فليس عليه شيء . وكذلك روي عن عطاء وسالم وقاسم أنهم قالوا : لا شيء عليه ، مثل قول ابن عباس رضي الله عنه .

والقول الثاني : ما قاله أكثر أهل التأويل ؛ قالوا : قوله تعالى : ( ومن قتله منكم متعمدا ) لقتله ناسيا لإحرامه فذلك الذي يحكم عليه ، وهو الخطأ المكفر . وإن قتله متعمدا لقتله ذاكرا لإحرامه يحكم[ أدرج قبلها في الأصل وم : لم ] عليه . وكذلك روي عن الحسن أنه قال : متعمدا لصيده ناسيا لإحرامه ، وقال : ( ومن عاد فينتقم الله منه ) متعمدا للصيد وذاكرا لإحرامه . فكأنهم ذهبوا إلى أن المحرم لا يقصد الصيد ، وهو ذاكرا لإحرامه ، أحسنوا الظن به .

وعندنا لأن الإحرام لا يجوز أن يخفى على المحرم ، وينسى ، لأن للمحرم أعلاما ؛ تذكره تلك الأعلام الحال التي هو فيها . وعندنا أن ما لا يجوز أن ينسى ، ويخفى على المرء لم يعذر صاحبه في نسيانه . وعندنا أن على قاتل الصيد الكفارة ؛ عمدا قتله أو خطأ .

وليست تخلو الآية من أن تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل الناسي لإحرامه كما قال الحسن ومجاهد ، أو تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل ذاكرا لإحرامه أولى بالكفارة/139-ب/ لأن ذنبه أعظم وجرمه أكبر . فإن قيل : إنكم لا توجبون الكفارة على قاتل النفس عمدا فما منع أن يكون قتل الصيد مثل ذلك ؟ وإن كان جرمه[ في الأصل وم : حرمته ] أعظم كما قيل [ نقل ][ ساقطة من الأصل وم ] إن قاتل النفس عمدا ، وإن كنا لم نوجب عليه الكفارة فقد أوجبنا عليه القصاص ، وهو أعظم من الكفارة . وقاتل الصيد عمدا لقتله ذاكرا لإحرامه ، لو أزلنا عنه الكفارة فلا شيء عليه سواها . لذلك اختلفا .

ثم نقول : إنا عرفنا الحكم في قتل الصيد في الخطإ ؛ إنما يعرف بغيره ، وليس في ذكر الحكم وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى . ولنا على هذا في ما تقدم في غير موضع [ أقوال ][ ساقطة من الأصل وم ] كرهنا إعادتها في هذا الموضع . ثم تخصيص ذكر الكفارة في قتل العمد يحتمل وجوها .

أحدها : أن الكفارة في قتل النفس إنما ذكرت في قتل الخطإ ، لم تذكر في قتل العمد ليعلم أنها إذا وجبت في العمد فهي[ في الأصل وم : فهو ] في الخطإ أوجب .

والثاني : أن الكفارة إنما وجبت بجنايته على صيد آمن به في الحرم . وكل ذي أمانة إذا أتلفت الأمانة لزم الغرم ، عمدا كان إتلافه أو خطإ . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

والثالث : أن ذكر التخيير في حال الضرورة يخرج مخرج التوسيع والتخفيف على أهلها . ولا يكون ذلك في غير حال الضرورة ، فدل ذكره في غير حال الضرورة على أن ذلك كالمذكور في حال الضرورة .

وقوله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) اختلف أهل العلم في ما يجب من المثل ؛ فقال قوم : في الظبي شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي حمال الوحش[ في الأصل وم : الوحشي ] بقرة ، وأشباه ذلك .

وقال آخرون : المثل قيمة الصيد يقومه عدلان ، فيوجبان قيمته دراهم ، فيشتري بتلك الدراهم شاة ، أو يجعله طعاما ، فيتصدق به ؛ على كل مسكين نصف صاع ، أو يصوم عن كل نصف صاع يوما .

وقال غيرهم : إن بلغ دما ذبح شاة ، وإن لم يبلغ دما يصدق به .

وأما قولنا : إن المثل هو القيمة لا المثل في رأي[ في الأصل وم/ : دار ] العين ، ذهبنا في ذلك إلى وجوه :

أحدها : أن المحرم إذا أصاب يدا في هذا الوقت حكم بجزائه حكمان . فلو كان مثل الظبي شاة في كل الدهور والأوقات كان ما تقدم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من الحكم في ذلك كائنا لا يحتاج إلى حكم غيرهم . فدل اجتماعهم على أن حكم الحكمين باق ، وعلى أن المثل غير مؤقت ؛ بل هو مختلف على قدر الأزمنة والمواضع والأوقات .

وإذا جعلنا المثل قيمة كانت الحاجة إلى الحكمين قائمة . وإذا جعلناه هديا فالحاجة إليها زائلة . ولا يجوز أن يعطل أمر الحكمين ، وقد ذكره الله تعالى في كتابه .

والثاني : ما أجمعوا عليه أن ما لا مثل له في الأنعام من الصيد إذا أصابه المحرم فعليه قيمته . فإذا كان المثل في بعض الصيد قيمته فهو في كل الصيد قيمته . وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من السلف رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك . فإن قيل : ما لا مثل له من النعم لا يمكن [ تقدير ][ ساقطة من الأ صل وم ] قيمة أكثر من قيمته . قيل له : فتجعل ذلك مثلا ؟ فإن قال : بلى ، قيل : فقد صارت القيمة مثلا في بعض الصيد ، فما منع أن يكون مثلا في كل الصيد ؟ فإن قال : المثل هو الهدي في ما له مثل . فأما ما لا مثل له من الهدي فليس الواجب فيه بمثل إنما ذلك قيمة . ولم يجب ذلك بنص الكتاب ، وإنما وجب ذلك بنص الكتاب : المثل من الهدي . فأما ما لا مثل له فإنما وجبت[ في الأصل وم : وجب ] قيمته بالإجماع .

قيل له : حدثنا عن قول الله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) هل دخل في عموم الآية الفرخ ونحوه ؟ فيكون منهيا عن قتله . فإن قال : نعم ، قيل : فإذا دخل الفرخ في عموم النهي عن قتل الصيد فهو أيضا داخل في عموم قوله : ( ومن قتله منكم متعمدا ) الآية . فإن قال : لا يدخل الفرخ في عموم قوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) قيل له : قد قال الله تعالى : ( ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم )[ الآية : 94 ] فروي أن[ من م ، في الأصل : أنه ] ذلك البيض والفراخ . فإن لم يجعل الفراخ ولا شيئا منها داخلا في الآية فما معنى الآية ؟ ونحن لا ننال بأيدينا من الصيد إلا ضعافه وما يعجز عن الطيران والعدو منه .

فالآية توجب أن الصيد كله قد دخل في عمومها ما قلت قيمته وما كثرت . وذلك يوجب أن يكون الواجب من قيمة الفرخ والعصفور مثلا ، والله أعلم . ولأن النعامة ، لا مثل لها من النعم ، فمن أوجب فيها بدنة فقد أوجب فيها ما ليس بمثل لها ، ولا نظير . ومن أوجب فيها قيمتها فقد أوجب مثلا لها ، فهو موافق للنص عندنا ، والله أعلم .

وكذلك الموجب في الحمامة شاة ، لا تشبه الصيد المقتول في عينه ولا في صفته ولا في جنسه ، فهو غير موجب المثل بل الموجب فيه القيمة أقرب إلى إيجاب المثل فيه ، والله أعلم .

فإن قيل : كيف سمى قيمة الشيء مثلا ، وليست من جنسه ، وإنما المثل ما كان من جنس الشيء ؟ قيل : قد ذكرنا أن قيمة ما لا مثل له من النعم يسمى مثلان ولأن الله تعالى قال : ( أو عدل ذلك صياما ) وإذا جاز أن يسمى الصيام عدلا للطعام جاز أن تسمى القيمة عدلا للصيد . وإنما صار الصيام[ من م ، في الأصل القيام ] عدلا بالتقويم[ في الأصل وم : بالتقدير ] ، والمثل والعدل في المعنى متقاربان[ في الأصل وم : متقارب ] ، والله أعلم .

ولأن الله تعالى قال : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) ولو كان المراد من المثل المنظور في رأي العين لم يكن بشرط ذوي عدل في معنى ؛ لأن المثل في رأي العين يعرفه كل أحد بصير فيه ، أو لم يكن . فدل ما شرط من نظر ذوي عدل باطن فيه وخفي لا[ من م ، في الأصل : إلا ] ما ظهر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( يحكم به ذوا عدل منكم ) تأويله ما ذكرنا : ينظر إلى رجلين عدلين بهما معرفة[ في الأصل وم : ومعرفة ] في ذلك ، فيقومانه ثم يشتري بها هديا ، إن شاء فيهدي ، وإن لم يبلغ هديا قومت الدراهم طعاما . فإن لم يجد صام مكان نصف صاع يوما .

روي عن ابن عباس رضي الله عنه كذلك والحسن وإبراهيم والقاسم[ من م ، الواو ساقطة من الأصل ] والسلف جملة .

وعندنا أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة ؛ يفعل أي هذه الثلاثة شاة لأن الله تعالى قال في المحصر : ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك )[ البقرة : 196 ] ولا خلاف بينهما[ في الأصل وم : بينهم ] في أن لصاحب الفدية في حلق الرأس أن يفعل أي هذه الثلاثة .

فالواجب أن يكون في جزاء الصيد مثله لأنه الخطاب خرج على حرف التخيير ، وكان سبب وجوبه واحدا فهو على التخيير نحو كفارة اليمين وما ذكرنا في دفع الأذى عن رأسه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) شرع بلوغ الكعبة ، وهو لا يبلغ نفس الكعبة ، فدل المراد رجع إلى بلوغه قرب الكعبة . وعلى هذا يخرج قولهم في من حلف ألا يمر على باب فلان . فمر بقرب بابه حيث استدلالا بقوله : ( هديا بالغ الكعبة لم يرد به بلوغه عين الكعبة ، ولكن مر بها أو مكانها . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

وكان محمد بن الحسن يقول : ( يحكم ) عليه بمثله من النعم حيث كان . وأبو حنيفة يقول : ( ويحكم ) عليه بقيمة الصيد في الموضع الذي أصابه فيه . واختلافهما في هذا يرجع إلى ما اختلفنا فيه من المثل عينا أو قيمة .

وقد روي عن عمر وعبد الرحمن رضي الله عنه وغيرهما أنهم حكموا في الظبي شاة ، ولم يسألوا عن الموضع الذي أصيب ، فدل تكرهم السؤال عن ذلك على أن المواضع كلها كانت عندهم سواء ، وأنهم أجروه مجرى الكفارات دون القيم . لأنهم لو أجروا ذلك مجرى ضمان القيم لسألوا كلها كانت عندهم سواء ، وأنهم أجروه مجرى الكفارات دون القيم . لأنهم لو أجروا ذلك مجرى ضمان القيم لسألوا عن أماكن الجنايات إذا كان الصيد تختلف قيمته ، لا تستوي في ذلك الأماكن كلها . فهذا يؤكد قول محمد ومن رافقه .

وأما عند /140-أ/ أبي حنيفة ، رحمه الله ، أن الملك للحرم في الصيد ، وكل من أتلف ملك آخر ، وجنى على مال أحد ، وإنما ينظر إلى قيمته في المكان الذي أتلفه . فعلى ذلك النظر في الصيد إلى المكان الذي أصابه .

ثم المسألة في جزاء الصيد : أين يذبح ؟ عندهم جميعا لا يجوز أن يذبح إلا بمكة لأنه لو جاز أن يذبح في غير الحرم حيث شاء زالت فائدة قوله تعالى : ( هديا بالغ الكعبة ) وليس في ذلك بينهم خلاف .

وأما الطعام والصيام فإن الله عز وجل لم يذكر فيهما موضعا ، ولا حمل لهما مكانا ، فله أن يطعم ، وأن يصوم حيث شاء . فإن قيل : إن الهدي يذبح في الحرم لمنفعة أهل الحرم به ، ويتصدق به عليهم ، فعلى ذلك الإطعام يجب أن يطعم أهل الحرم لأنه جعل لمنفعة لهم ، قيل : لا خلاف بينهم أنه لو ذبح الهدي في غير الحرم ألا يجوز ؟ دل أنه لا لما ذكر ، ولكن لما الهدايا لا تذبح إلا بمكة .

ألا ترى ما[ في الأصل وم : من ] قال الله تعالى : عليه أن يهدي ، ليس له أن يذبح إلا بمكة ؟ ولو قال : عليه الإطعام والصدقة . له أن يتصدق حيث شاء . دل أن يهدي مخصوص ذبحه بمكة لا تجوز في غيرها[ في الأصل وم : غيره ] . فأما الصدقة فإنها تجوز في الأماكن كلها ، لذلك افترقا ، و الله أعلم .

وقوله تعالى : ( ليذوق وبال أمره ) أي لينال [ عافية ][ ساقطة من الأصل وم ] أمره وألمه كما نال لذته . وقيل : جزاء ذنبه ، وهو الكفارة .

وقوله تعالى : ( عفا الله عما سلف ) إذا تاب ، ورجع عما استحل من قتل الصيد ، وهو كقوله تعالى : ( يغفر لهم ما قد سلف )[ الأنفال : 38 ] .

وقوله تعالى : ( ومن عاد فينتقم الله منه والله ) أي من عاد إلى استحلال[ أدرج قبلها في الأصل : قتل ] الصيد في الحرم ينتقم الله منه في النار . ويحتمل من عاد إلى قتل الصيد ينتقم الله منه بالكفارة .

وقوله تعالى : ( والله عزيز ذو انتقام ) أي لا يعجزه شيء . ويقال : ( عزيز ) أي كل عز عند[ من م ، في الأصل : عنده ] عزه ذل ، وغني أي كل غنى عند غناه فقر ، ونحوه ، والله أعلم .