الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا " هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد " الآية . وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري{[5955]} كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " .
الثانية : قوله تعالى : " لا تقتلوا الصيد " القتل هو كل فعل يميت الروح ، وهو أنواع : منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه ، فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مقيتا للروح .
الثالثة : من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : عليه جزاء ما أكل ، يعني قيمته ، وخالفه صاحباه فقالا : لا شيء عليه سوى الاستغفار ؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى ؛ ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار . وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه ؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام ، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول ، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى .
الرابعة : لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد ، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله ؛ وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : ذبح المحرم للصيد ذكاة ، وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم ، مضاف إلى محله وهو الأنعام ، فأفاد مقصوده من حل الأكل ، أصله ذبح الحلال . قلنا : قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد ؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلا ، وإنما يفيدها الشرع ، وذلك بإذنه في الذبح ، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح ، والمحرم منهي عن ذبح الصيد ؛ لقوله : " لا تقتلوا الصيد " فقد انتفت الأهلية بالنهي . وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله ، وإنما يأكل منه غيره عندكم ، فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره ، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه ، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله .
الخامسة : قوله تعالى : " الصيد " مصدر عومل معاملة الأسماء ، فأوقع على الحيوان المصيد ، ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " [ المائدة : 96 ] فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ، على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى .
السادسة : اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه ، فقال مالك : كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه . قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ، وهي مثل فراخ الغربان . ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب ، مثل الأسد والذئب والنمر والفهد ، وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة . قال إسماعيل : إنما ذلك لقوله عليه السلام : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ] الحديث ، فسماهن فساقا ، ووصفهن بأفعالهن ؛ لأن الفاسق فاعل للفسق{[5956]} ، والصغار لا فعل لهن ، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر ، فلا تدخل في هذا النعت . قال القاضي{[5957]} إسماعيل : الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس . قال : ومن ذلك الحية والعقرب ؛ لأنه يخاف منهما ، وكذلك الحدأة والغراب ؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس . قال ابن بكير : إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة{[5958]} ؛ وفي الفأرة لقرضها السقاء{[5959]} والحذاء اللذين بهما قوام المسافر . وفي الغراب لوقوعه على الظهر{[5960]} ونقبه عن لحومها ؛ وقد روي عن مالك أنه قال : لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا . قال القاضي{[5961]} إسماعيل : واختلف في الزنبور ، فشبهه بعضهم بالحية والعقرب ، قال : ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب ، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب ، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي . قال : فإذا عرض الزنبور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله ، وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور . وقال مالك : يطعم قاتله شيئا ، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه . وقال أصحاب الرأي : لا شيء على قاتل هذه كلها . وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب ، العقور والذئب خاصة ، سواء ابتدأه أو ابتدأهما ، وإن قتل غيره من السباع فداه . قال : فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه ، قال : ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة ، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر ، وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن ، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ، فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها .
قلت : العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر ، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله ! وقال زفر بن الهذيل : لا يقتل إلا الذئب وحده ، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية ، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه ؛ لأنه عجماء فكان فعله هدرا ، وهذا رد للحديث ومخالفة له . وقال الشافعي : كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله ، وصغار ذلك وكباره سواء ، إلا السِّمْع وهو المتولد بين الذئب والضبع ، قال : وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم{[5962]} وما لا يؤكل لحمه شيء ؛ لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " [ المائدة : 96 ] فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ، حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع ، فإن قيل : فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل ؟ قيل له : ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه ؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، فكأنه أماط بعض شعره ، فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي . وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي ، قاله أبو عمر .
السابعة : روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ) . اللفظ للبخاري ، وبه قال أحمد وإسحاق . وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ] . وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا : لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة ؛ لأنه تقييد مطلق . وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ ويرمي الغراب ولا يقتله ] . وبه قال مجاهد . وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر ، والله أعلم . وعند أبي داود والترمذي : والسبع العادي ، وهذا تنبيه على العلة .
الثامنة : قوله تعالى : " وأنتم حرم " عام في النوعين من الرجال والنساء ، الأحرار والعبيد ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وجمع ذلك حُرُم ؛ كقولهم : قذال وقذل . وأحرم الرجل دخل في الحرم ، كما يقال : أسهل دخل في السهل . وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم . يقال : رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم ، أو تلبس بالإحرام ، إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا ، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف ، قاله ابن العربي .
التاسعة : حرم المكان حرمان ، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف ، فلا يجوز عنده قطع شجره ، ولا صيد صيده ، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة ، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما . وقال ابن أبي ذئب : عليه الجزاء . وقال سعد : جزاؤه أخذ سلبه ، وروي عن الشافعي . وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير مُحرّم ، وكذلك قطع شجرها . واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : [ من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه ] . وأخذ سعد سلب من فعل ذلك . قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة ، فدل ذلك على أنه منسوخ . واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النفير ، فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه . أما الحديث الأول فليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة ، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا . وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم . وكذلك حديث عائشة أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش ، فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر ، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض ، فلم يترمرم{[5963]} كراهية أن يؤذيه . ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ما بين لابتيها حرام ]{[5964]} فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة ، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة . وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة ، دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة ، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد .
ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : [ اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى{[5965]} خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ] ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة . قال القاضي عبدالوهاب : وهذا قول أقيس عندي على أصولنا ، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام . ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : [ المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر{[5966]} فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ]{[5967]} فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة . وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به ؛ لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه ، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم ، فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرد عليهم ، فقوله : ( نفلنيه ) ظاهره الخصوص . والله أعلم .
العاشرة : قوله تعالى : " ومن قتله منكم متعمدا " ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي ، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام . والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا ، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه . واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال :
الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا . الثاني : أن قوله : " متعمدا " خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة . الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي ، وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، وبه قال طاوس وأبو ثور ، وهو قول داود . وتعلق أحمد بأن قال : لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر ، دل عل أن غيره بخلافه . وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل . الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ، قاله ابن عباس . وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم وإبراهيم ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم . قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة ، قال ابن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي ، وما أحسنها أسوة . الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك : " ومن عاد فينتقم الله منه " . قال : ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة ، قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه ، قال مجاهد : فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه ، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة ، أو أحدث فيها ؛ قال : ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه . ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له ، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان ، وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا ، ويستغفر الله ، وحجه تام ، وبه قال ابن زيد . ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال : [ هي صيد ] وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ . وقال ابن بكير من علمائنا : قول سبحانه : " متعمدا " لم يرد به التجاوز عن الخطأ ، وإنما أراد " متعمدا " ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة ، وأن الصيد فيه كفارة ، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ . والله أعلم .
الحادية عشرة : فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ؛ لقول الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له . وروي عن ابن عباس قال : لا يحكم عليه مرتين في الإسلام ، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ؛ لقوله تعالى : " ومن عاد فينتقم الله منه " . وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح . ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام ، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام .
الثانية عشرة : قوله تعالى : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " فيه أربعة قراءات ؛ " فجزاء مثل " برفع جزاء وتنوينه ، و " مثل " على الصفة ، والخبر مضمر ، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم . وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه . و " جزاء " بالرفع غير منون و " مثل " بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل ، و " مثل " مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك ، وأنت تقصد أنا أكرمك . ونظير هذا قوله تعالى : " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات{[5968]} " [ الأنعام : 122 ] التقدير كمن هو في الظلمات ، وقوله : " ليس كمثله شيء{[5969]} " [ الشورى : 11 ] أي ليس كهو شيء{[5970]} . وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل ؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه . وقال أبو علي : إنما يجب عليه جزاء المقتول ، لا جزاء مثل المقتول ، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول . وهو قول الشافعي على ما يأتي . وقوله : " من النعم " صفة لجزاء على القراءتين جميعا . وقرأ الحسن " من النعم " بإسكان العين وهي لغة . وقرأ عبدالرحمن " فجزاء " بالرفع والتنوين " مثل " النصب ؛ قال أبو الفتح : " مثل " منصوبة بنفس الجزاء ، والمعنى أن يجزى مثل ما قتل . وقرأ ابن مسعود والأعمش " فجزاؤه مثل " بإظهار ( هاء ) ، ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل .
الثالثة عشرة : الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى . وفي ( المدونة ) : من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال : لا جزاء عليه . قال{[5971]} وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه . وقيل : عليه من الجزاء بقدر ما نقصه . ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه . ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد ، أو تركه محوفا{[5972]} عليه فعليه جزاؤه كاملا .
الرابعة عشرة : ما يُجزَى من الصيد شيئان : دواب وطير ؛ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ، ففي النعامة بدنة ، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة ، وفي الظبي شاة ، وبه قال الشافعي . وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية ؛ وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه ، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام . وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة ، فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك . والدبسي{[5973]} والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام . وحكى ابن عبدالحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة ؛ قال : وكذلك حمام الحرم ، قال : وفي حمام الحل حكومة . وقال أبو حنيفة : إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة ، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه ، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله ، فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء ، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر . وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل ، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء ، فإن المثل هو الأصل في الوجوب ، وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة ( فجزاء مثل ) . احتج أبو حنيفة فقال : لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا في النعامة بدنة ، وفي الحمار بقرة ، وفي الظبي شاة ، لما أوقفه على عدلين يحكمان به ؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر ، وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه ، ويضطرب وجه النظر عليه . ودليلنا عليه قول الله تعالى : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " الآية . فالمثل يقتضي بظاهرة المثل الخلقي الصوري دون المعنى ، ثم قال : " من النعم " فبين جنس المثل ؛ ثم قال : " يحكم به ذوا عدل منكم " وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم ؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه ، ثم قال : " هديا بالغ الكعبة " والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم ، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا ، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية ، فصح ما ذكرناه . والحمد لله . وقولهم : لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين ، فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر ، وما لا جنس له مما له جنس ، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص .
الخامسة عشرة : من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة . قال مالك : وفي صغار الصيد مثل ما في كباره ، وهو قول عطاء . ولا يفدى عند مالك شيء بعناق{[5974]} ولا جفرة ، قال مالك : وذلك مثل الدية ، الصغير والكبير فيها سواء . وفي الضب عنده واليربوع{[5975]} قيمتهما طعاما . ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد ، وفي اعتبار الجذع والثني ، ويقول بقول عمر في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ، رواه مالك موقوفا . وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة ] قال : والجفرة التي قد ارتعت . وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير : وما الجفرة ؟ قال : التي قد فطمت ورعت . خرجه الدارقطني . وقال الشافعي : في النعامة بدنة ، وفي فرخها فصيل ، وفي حمار الوحش بقرة ، وفي سخلة{[5976]} عجل ؛ لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة ، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات . قال ابن العربي : وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا ، قالوا : ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية ، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف . ودليلنا قوله تعالى : " فجزاء مثل ما قتل من النعم " ولم يفصل بين صغير وكبير . وقوله : " هديا " يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق . وذلك يقتضي الهدي التام . والله أعلم .
السادسة عشرة : في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك . وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة . قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر ، فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير . قال ابن المواز : بحكومة عدلين . وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة . روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه ، خرجه الدارقطني . وروي عن أبي هريرة{[5977]} قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين ] .
السابعة عشرة : وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام ، دون ما يراد له من الأغراض{[5978]} ؛ لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله ، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره . ولأن الناس قائلان - أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد ، ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم ، فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له . وأما الفيل فقيل : فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان ، وهي بيض خراسانية ، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما ، فيكون عليه ذلك ، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب ، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء ، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه ، وهذا عدله من الطعام . وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر .
الثامنةعشرة : قوله تعالى : " يحكم به ذوا عدل منكم " روى مالك عن عبدالملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية{[5979]} ، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى ؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه : تعال حتى أحكم أنا وأنت ، فحكما عليه بعنز ، فولى الرجل وهو يقول : هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه ، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله ، هل تقرأ سورة " المائدة " ؟ فقال : لا ، قال : هل تعرف الرجل الذي حكم معي ؟ فقال : لا ، فقال عمر رضي الله عنه : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة " المائدة " لأوجعتك ضربا ، ثم قال : إن الله سبحانه يقول في كتابه : " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة " وهذا عبدالرحمن بن عوف .
التاسعة عشرة : إذا اتفق الحَكَمان لزم الحكم ، وبه قال الحسن والشافعي . وإن اختلفا نظر في غيرهما . وقال محمد بن المواز : لا يأخذ بأرفع من قوليهما ؛ لأنه عمل بغير تحكيم . وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام ؛ لأنه أمر قد لزم ، قاله ابن شعبان . وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا ، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز . وقال ابن وهب رحمه الله في ( العتبية ) : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد ، كما خيره الله في أن يخرج " هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي ، وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه ، أو يصوم مكان كل مد يوما ، وكذلك قال مالك في ( المدونة ) .
الموفية عشرين : ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض ، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا . وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة ، ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم .
الحادية والعشرون : لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي في أحد قوليه : يكون الجاني أحد الحكمين ، وهذا تسامح منه ، فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر ، وإفساد للمعنى ؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز ، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره ؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى ، فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين .
الثانية والعشرون : إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة : على كل واحد جزاء كامل . وقال الشافعي : عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبدالرحمن . وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها{[5980]} بعصيهم فأصابوها ، فوقع في أنفسهم ، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال : عليكم كلكم كبش ، قالوا : أو على كل واحد منا كبش ، قال : إنكم لمعزز بكم{[5981]} ، عليكم كلكم كبش . قال اللغويون : لمعزز بكم أي لمشدد عليكم . وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال : عليهم كبش يتخارجونه{[5982]} بينهم . ودليلنا قول الله سبحانه : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " وهذا خطاب لكل قاتل . وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال ، بدليل قتل الجماعة بالواحد ، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص ، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم ، فثبت ما قلناه .
الثالثة والعشرون : قال أبو حنيفة : إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم{[5983]} محلون ، عليهم جزاء واحد ، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم ، فإن ذلك لا يختلف . وقال مالك : على كل واحد منهم جزاء كامل ، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم ، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام ، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي ، فهو هاتك لها في الحالتين . وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال : السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة ، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه . وإذا قتل المحلون صيدا{[5984]} في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة ، فإن كل واحد منهم قاتل دابة ، ويشتركون في القيمة . قال ابن العربي : وأبو حنيفة أقوى منا ، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : " هديا بالغ الكعبة " المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد ، ويرسل من الحل إلى مكة ، وينحر ويتصدق به فيها ؛ لقوله : " هديا بالغ الكعبة " ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها ، إذ هي في المسجد ، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا . وقال الشافعي : لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد ، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه .
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : " أو كفارة طعام مساكين " الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي . قال ابن وهب قال مالك : أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه ، أنه يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر كم ثمنه من الطعام ، فيطعم لكل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما . وقال ابن القاسم عنه : إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه ، والصواب الأول . وقال عبدالله بن عبدالحكم مثله قال عنه : وهو في هذه الثلاثة بالخيار ، أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا . وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء ؛ لأن " أو " للتخيير قال مالك : كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل . وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام ، وإن قتل إيلا{[5985]} أو نحوه فعليه بقرة ، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا ، فإن لم يجد صام عشرين يوما ، وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة{[5986]} ، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما . والطعام مد مد لشبعهم . وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة ، قالوا : والمعنى " أو كفار طعام " إن لم يجد الهدي . وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه ، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به ، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم ، ثم قومت الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما ، وقال : إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام ، فمن لم يجد طعاما ، فإنه يجد جزاءه . وأسنده أيضا عن السدي . ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره .
السادسة والعشرون : اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف ، فقال قوم : يوم الإتلاف . وقال آخرون : يوم القضاء . وقال آخرون : يلزم المتلف أكثر القيمتين ، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم . قال ابن العربي : واختلف علماؤنا كاختلافهم ، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف ، والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه ، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله ، وذلك في وقت العدم .
السابعة والعشرون : أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة ؛ لقوله تعالى : " هديا بالغ الكعبة " . وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة ، وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي . وقال عطاء : ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء ، وهو قول مالك في الصوم ، ولا خلاف فيه . قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب : ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام . وقال حماد وأبو حنيفة : يكفر بموضع الإصابة مطلقا . وقال الطبري : يكفر حيث شاء مطلقا ، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر ، ولا أثر فيه . وأما من قال يصوم حيث شاء ؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها . وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة ؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له ، والهدي حق لمساكين مكة ، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره . وأما من قاله إنه يكون بكل موضع ، فاعتبار بكل طعام وفدية ، فإنها تجوز بكل موضع . والله أعلم .
الثامنة والعشرون : قوله تعالى : " أو عدل ذلك صياما " العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل ، قاله الكسائي . وقال الفراء : عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه ، وبفتح العين مثله من غير جنسه ، ويؤثر هذا القول عن الكسائي ، تقول : عندي عدل دراهمك من الدراهم ، وعندي عدل دراهمك من الثياب ، والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان ، وهو قول البصريين . ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد قال مالك : يصوم عن كل مد يوما ، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة ؛ وبه قاله الشافعي . وقال يحيى بن عمر من أصحابنا : إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ، ثم يقال : كم من الطعام يشبع هذا العدد ، فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده . وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة ، فبهذا النظر يكثر الإطعام . ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين ، قالوا : لأنها أعلى الكفارات . واختاره ابن العربي . وقاله أبو حنيفة رحمه الله : يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى .
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : " ليذوق وبال أمره " الذوق هنا مستعار كقوله تعالى : " ذق إنك أنت العزيز الكريم{[5987]} " [ الدخان : 49 ] . وقال : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف{[5988]} " [ النحل : 112 ] . وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان ، وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ) . الحديث والوبال سوء العاقبة . والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله . وطعام وبيل إذا كان ثقيلا ، ومنه قوله{[5989]} :
عقيلة شيخٍ كالوَبِيل يَلَنْدَدِ{[5990]}
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : " عفا الله عما سلف " بمعنى في جاهليتكم من قتلكم الصيد ، قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه . وقيل : قبل نزول الكفارة . " ومن عاد " يعني للمنهي{[5991]} " فينتقم الله منه " أي بالكفارة . وقيل : المعنى " فينتقم الله منه " يعني في الآخرة إن كان مستحلا ، ويكفر في ظاهر الحكم . وقال شريح وسعيد بن جبير : يحكم عليه في أول مرة ، فإذا عاد لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، أي ذنبك أعظم من أن يكفر ، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها . والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير . وقد روي عن ابن عباس : يملأ ظهره سوطا حتى يموت وروي عن زيد بن أبي المعلى : أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه ، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته ، وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية .
قوله تعالى : " والله عزيز ذو انتقام " " عزيز " أي منيع في ملكه ، ولا يمتنع عليه ما يريده . " ذو انتقام " ممن عصاه إن شاء .