الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ هَدۡيَۢا بَٰلِغَ ٱلۡكَعۡبَةِ أَوۡ كَفَّـٰرَةٞ طَعَامُ مَسَٰكِينَ أَوۡ عَدۡلُ ذَٰلِكَ صِيَامٗا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمۡرِهِۦۗ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَفَۚ وَمَنۡ عَادَ فَيَنتَقِمُ ٱللَّهُ مِنۡهُۚ وَٱللَّهُ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٍ} (95)

يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }

أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام ، { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } اختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد ، قال : حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله ، فأما إذا قتله عمداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى اللّه ، لأنه أعظم من أن يكون له كفارة .

قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون : هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ ، وهو اختيار الشافعي وأكثر الفقهاء .

وقال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ .

وقال ابن عباس : إن قتله متعمداً مختاراً سئل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال : نعم لم يحكم عليه وقيل له : اذهب فينتقم اللّه منك . وإن قال : لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد وقتل الصيد محرماً بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول اللّه ( عليه السلام ) في وجّ وهو وادٍ بالطائف ، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك .

قوله : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } نوّنها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء ، كأنه فسّر الجزاء فقال : مثل ما قيل من النعم وأضافها الآخرون لاختلاف الاسمين ، { يَحْكُمُ بِهِ } أي بالجزاء { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } أي فقيهان عدلان ، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة ، فإن قتل نعامة فعليه بدنة ، فإن قتل بقرة أو إبلاً أو حماراً فعليه بقرة ، وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي ، وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال .

وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبياً فعليه شاة ، وفي الغزال والأرنب جمل ، وفي الضب واليربوع سخلة ، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة ، واختلفوا في الجراد ، وروي عن عمر أنّه قال لكعب وقد قتل جرادتين : ما جعلت على نفسك ، قال : درهماً قال : بخ ، قال : درهم خير من مائة جرادة .

وروي عن عمر أيضاً في الجرادة تمرة .

قال ابن عباس : قبضة من طعام فإن أصاب فرخاً أو بيضاً أو شيئاً لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاماً ، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر ، وإليه ذهب الشافعي ، وعليه جمهور أهل العلم ، قال النخعي : يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة .

وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجاً وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث ، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي [ فابتدرناه ] فابتدرته ورميته بحجر ، فأصاب حشاه ، فركب ردعه فمات ، فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وكان حاجاً وكان جالساً ، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك ، فقال عمر لعبد الرحمن : ما ترى ؟ فقال : عليه شاة قال : وأنا أرى ذلك . قال : اذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره ، قال : فلم [ يفجأنا ] إلاّ وعمر معه درّة فعلاني بالدرّة فقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم ، قال اللّه { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فأنا عمر وهذا عبد الرحمن .

محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي [ صوليه ] عن عبد الملك بن عمير : أو كفارة طعام مساكين إذا لم يكن واجداً للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام . يقوّم الصيد المقتول دراهم ثم يقوّم الدراهم طعاماً فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوماً عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي : لكل مدّ وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظاً وهو قول مجاهد وعطاء ، واختلفوا في تقويم الطعام .

فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء : يقوّم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها .

وقال الشعبي : يقوّم بسعر الأرض التي يكفر بها . قال جابر : سأل الشعبي عن محرم أصاب صيداً بخراسان . قال : يكفر بمكة بثمن مكة .

واختلفوا في الإطعام أين يُطعم ؟ .

فقال قوم : يُطعم بمكة فلا يجزي إلاّ بها ، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي .

فأما الهدي فلا يجوز إلاّ بمكة بلا خلاف . فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلاّ في قتله أو جرحه ولو دلّ على صيد كان مسيئاً جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئاً .

واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حلّ أكله .

أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الدينوري ، أبو بكر البستي ، أبو عبد الرحمن البستي ، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : " خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة والكلب العقور " .

وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيّب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خمس يقتلهن المحرم : الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور " .

{ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } جزاء معصيته ، { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف } في الجاهلية ، { وَمَنْ عَادَ } في الإسلام ، { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } في الآخرة .

وقال ابن عباس : يملأ ظهره سوطاً حتى يموت .

السدي : عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه اللّه بالنار .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } .