قوله تعالى : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } ، أي : ليصرفوا عن دين الله ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً : أبو جهل بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، والنضر بن الحارث ، وحكيم بن حزام ، وأبي بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، والحارث بن عامر بن نوفل ، والعباس بن عبد المطلب ، وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر ، وقال الحكم بن عيينة : نزلت في أبي سفيان ، أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية .
قوله تعالى : { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً } ، يريد : ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة .
قوله تعالى : { ثم يغلبون } ، ولا يظفرون .
قوله تعالى : { والذين كفروا } ، منهم .
قوله تعالى : { إلى جهنم يحشرون } ، خص الكفار لأن منهم من أسلم .
36 - 37 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
يقول تعالى مبينا لعداوة المشركين وكيدهم ومكرهم ، ومبارزتهم للّه ولرسوله ، وسعيهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته ، وأن وبال مكرهم سيعود عليهم ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي : ليبطلوا الحق وينصروا الباطل ، ويبطل توحيد الرحمن ، ويقوم دين عبادة الأوثان .
فَسَيُنْفِقُونَهَا أي : فسيصدرون هذه النفقة ، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل ، وشدة بغضهم للحق ، ولكنها ستكون عليهم حسرة ، أي : ندامة وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا ، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب . ولهذا قال : وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي : يجمعون إليها ، ليذوقوا عذابها ، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء ،
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله . . هكذا فعلوا يوم بدر ، على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . . وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية . والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون ، ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة :
( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ؛ ثم يغلبون ؛ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض ، فيركمه جميعاً ، فيجعله في جهنم ، أولئك هم الخاسرون ) . .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ؛ ورجع أبو سفيان بِعيره ، مشى عبدالله بن ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففعلوا . فقال : ففيهم - كما ذكر ابن عباس - أنزل الله عز وجل : ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم . . . ) .
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين . . إنهم ينفقون أموالهم ، ويبذلون جهودهم ، ويستنفدون كيدهم ، في الصد عن سبيل الله ، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين . وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
إن المعركة لن تكف . وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة . ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن . وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية ، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان ؛ ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت .
والله - سبحانه - ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة . . إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية ، وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا . وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم ، فتتم الحسرة الكبرى . . ذلك . .
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }
لما ذُكر صدهم المسلمين عن المسجد الحرام الموجب لتعذيبهم ، عُقب بذكر محاولتهم استيصال المسلمين وصدهم عن الإسلام وهو المعني ب { سبيل الله } وجعلت الجملة مستأنفة ، غير معطوفة ، اهتماماً بها أي أنهم ينفقون أموالهم وهي أعز الأشياء عليهم للصد عن الإسلام ، وأتى بصيغة المضارع في { ينفقون } للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وأن الإنفاق مستمر لإعداد العُدد لغزو المسلمين ، فإنفاقهم حصل في الماضي ويحصل في الحال والاستقبال ، وأشعرت لام التعليل بأن الإنفاق مستمر لأنه منوط بعلة ملازمة لنفوسهم وهي بغض الإسلام وصدهم الناس عنه .
وهذا الإنفاق : أنهم كانوا يطعمون جيشهم يوم بدر اللحم كل يوم ، وكان المطعمون اثني عشر رجلاً وهم أبو جهل ، وأمية بن خلف ، والعباس بن عبد المطلب وعتبة بن ربيعة ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعمية بن عدي بن نوفل ، وأبو البَخْترِي والعاصي بن هاشم ، وحكيم بن حزام ، والنضر بن الحارث ، ونُبَيْه بنُ حجاج السهمي ، وأخوه مُنَبه ، وسهيل بن عَمرو العامري ، كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر . وهذا الإنفاق وقع يوم بدر ، وقد مضى ، فالتعبير عنه بصيغة المضارع لاستحضار حالة الإنفاق وأنها حالة عجيبة في وفرة النفقات .
وهو جمع بالإضافة يجعله من صيغ العموم ، فكأنه قيل ينفقون أموالهم كلها مبالغة ، وإلاّ فإنهم ينفقون بعض أموالهم .
والفاء في { فسينفقونها } تفريع على العلة لأنهم لما كان الإنفاق دأبهم لتلك العلة المذكورة ، كان مما يتفرع على ذلك تكرر هذا الانفاق في المستقبل ، أي ستكون لهم شدائد من بأس المسلمين تضطرهم إلى تكرير الانفاق على الجيوش لدفاع قوة المسلمين .
وضمير { ينفقونها } راجع إلى الأموال لا بقيد كونها المنفَقة بل الأموال الباقية أو بما يكتسبونه .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي ، أي وبعد ذلك تكون تلك الأموال التي ينفقونها حسرة عليهم ، والحسرة شدة الندامة والتلهفُ على ما فات ، وأسندت الحسرة إلى الأموال لأنها سبب الحسرة بإنفاقها . ثم إن الإخبار عنها بنفس الحسرة مبالغة مثل الإخبار بالمصادر ، لأن الأموال سبب التَحَسر لا سبب الحسرة نفسها .
وهذا إنذار بأنهم لا يحصلون من إنفاقهم على طائِل فيما أنفقوا لأجله ، لأن المنفق إنما يتحسر ويندم إذا لم يحصُل له المقصود من إنفاقه . ومعنى ذلك أنهم ينفقون ليغلبوا فلا يغلِبون ، فقد أنفقوا بعد ذلك على الجيش يومَ أُحُد : استأجر أبو سفيان ألفين من الأحابيش لقتال المسلمين يوم أُحُد . والأحابيش : فِرَق من كنانة تجمعت من أفذاذ شتى وحالفوا قريشاً وسكنوا حول مكة سمّو أحابيش جمع أحبوش وهو الجماعة أي الجماعات فكان ما أحرزوه من النصر كِفاءً لنصر يوم بدر ، بل كان نصر يوم بدر أعظمَ .
ولذلك اقتنع أبو سيفيان يوم أُحُد أن يقول « يوم بيوم بدر والحرب سجال » وكان يحسب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قُتل وأن أبا بكر وعمر قتلا فخاب في حسابه ، ثم أنفقوا على الأحزاب حين هاجموا المدينة ثم انصرفوا بلا طائِل ، فكان إنفاقهم حسرة عليهم .
وقوله : { ثم يُغلبون } ارتقاء في الإنذار بخيبتهم وخذلانهم ، فإنهم بعد أن لم يحصلوا من إنفاقهم على طائِل تُوعدوا بأنهم سيغلبهم المسلمون بعد أن غلبوهم أيضاً يومَ بدر ، وهو إنذار لهم بغلب فتح مكة وانقطاعِ دابر أمرهم ، وهذا كالإنذار في قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وإسناد الفعل إلى المجهول لكون فاعل الفعل معلوماً بالسياق فإن أهل مكة ما كانوا يقاتلون غير المسلمين وكانت مكة لَقاحاً .
و { ثم } للتراخي الحقيقي والرتبي مثل التي قبلها .
{ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }
كان مقتضى الظاهر أن يقال وإلى حهنم يحشرون كما قال في الآية الأخرى : { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] فعدل عن الإضمار هنا إلى الإظهار تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، للإفصاح عن التشنيع بهم في هذا الإنذار حتى يعاد استحضار وصفهم بالكفر بإصرح عبارة ، وهذا كقول عويف القوافي :
اللؤْم أكرم من وَبْرٍ ووالِده *** واللؤْم أكرمُ من وَبْر ومَا وَلدَا
لقصد زيادة تشنيع وَبْرٍ المهجو بتقرير اسمه واسم اللؤم الذي شبه به تشبيهاً بليغاً .
وعرّفوا بالموصولية إيماء إلى أن علة استحقاقهم الأمرين في الدنيا والآخرة هو وصف الكفر ، فيعلم أن هذا يحصل لمن لم يقلعوا عن هذا الوصف قبل حلول الأمرين بهم .