قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى } ، وكان حقه ، والصابئين ، وقد ذكرنا في سورة البقرة وجه ارتفاعه . وقال سيبويه : فيه تقديم وتأخير تقديره : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله ، إلى آخر الآية والصابئون ، كذلك قوله : { إن الذين آمنوا } أي : باللسان ، وقوله : { من آمن بالله } أي : بالقلب ، وقيل : الذين آمنوا على حقيقة الإيمان .
قوله تعالى : { من آمن بالله } ، أي ثبت على الإيمان .
قوله تعالى : { واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ }
يخبر تعالى عن أهل الكتب{[271]} من أهل القرآن والتوراة والإنجيل ، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد ، وأصل واحد ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر [ والعمل الصالح ]{[272]} فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فله النجاة ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها . وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة .
وينتهي هذا المقطع بالبيان الأخير عن " الدين " الذي يقبله الله من الناس ، أيا كان وصفهم وعنوانهم وما كانوا عليه قبل بعثة النبي الأخير ؛ والذي يلتقي عليه المتفرقون في الملل والنحل فيما غبر من التاريخ :
( إن الذين آمنوا ، والذين هادوا ، والصابئون ، والنصارى . . من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا . . فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والذين آمنوا هم المسلمون . والذين هادوا هم اليهود . والصابئون هم في الغالب تلك الفئة التي تركت عبادة الأوثان قبل بعثة الرسول [ ص ] وعبدت الله وحده على غير نحلة معينة ، ومنهم من العرب أفراد معدودون . والنصارى هم أتباع المسيح - عليه السلام .
والآية تقرر أنه أيا كانت النحلة ، فإن من آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا - ومفهوم ضمنا في هذا الموضع ، وتصريحا في مواضع أخرى أنهم فعلوا ذلك على حساب ما جاء به الرسول الأخير - فقد نجوا : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . . ولا عليهم مما كانوا فيه قبل ذلك ؛ ولا مما يحملون من أسماء وعنوانات . . فالمهم هو العنوان الأخير . .
وهذا الذي نقرر أنه مفهوم من الآية ضمنا يعتبر من " المعلوم من الدين بالضرورة " . فمن بديهيات هذه العقيدة ، أن محمدا [ ص ] هو خاتم النبيين ، وأنه أرسل إلى البشر كافة ، وأن الناس جميعا - على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم واعتقاداتهم وأجناسهم وأوطانهم - مدعوون إلى الإيمان بما جاء به ، وفق ما جاء به ؛ في عمومه وفي تفصيلاته . وأن من لا يؤمن به رسولا ، ولا يؤمن بما جاء به إجمالا وتفصيلا ، فهو ضال لا يقبل الله منه ما كان عليه من دين قبل هذا الدين ، ولا يدخل في مضمون قوله تعالى : ( فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
وهذه هي الحقيقة الأساسية " المعلومة من الدين بالضرورة " التي لا يجوز للمسلم الحق أن يجمجم فيها أو يتمتم ؛ أمام ضخامة الواقع الجاهلي الذي تعيش فيه البشرية . والتي لا يجوز للمسلم أن يغفلها في إقامة علاقاته بأهل الأرض قاطبة ؛ من أصحاب الملل والنحل . فلا يحمله ضغط الواقع الجاهلي على اعتبار أحد من أصحاب هذه الملل والنحل على " دين " يرضاه الله ؛ ويصلح أن يتناصر معه فيه ويتولاه !
إنما الله هو الولي ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) مهما تكن ظواهر الأمور . . ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - على أساس هذا الدين الذي هو وحده الدين - فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . لا خوف عليهم في الدنيا ولا في الآخرة . . لا خوف عليهم من قوى الباطل والجاهلية المتراكمة . ولا خوف عليهم من أنفسهم المؤمنة العاملة الصالحة . . ولا هم يحزنون . . .
{ الذين } لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل ، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم ، وبينت الطوائف على اختلافها ، وهذا تأويل جمهور المفسرين ، وقال الزجاج المراد بقوله : { إن الذين آمنوا } المنافقون ، فالمعنى أن الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم .
قال القاضي أبو محمد : فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان ، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى التأويل الأول ويكون قوله { من آمن } في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر ، وقد تقدم تفسير { هادوا } وتفسير «الصائبين » وتفسير { النصارى } في سورة البقرة ، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون » بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة ، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين » وهذه قراءة بينة الإعراب ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون » بكسر الباء وضم الياء دون همز وقد تقدم في سورة البقرة وأما قراءة الجمهور «والصابئون » فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به ، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون والنصارى » كذلك ، وأنشد الزجاج نظيراً في ذلك :
وإلا فاعلموا أنا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق{[3]}
فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك ، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا : و { الصابئون } عطف على { الذين } ، إذ الأصل في { الذين } الرفع وإذ نصب { إن } ضعيف{[4]} وخطأ الزجّاج هذا القول وقال : { إن } أقوى النواصب ، وحكي أيضاً عن الكسائي أنه قال و { الصابئون } عطف على الضمير في { هادوا } والتقدير هادوا هم الصابئون ، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا ، وقيل إن معنى نعم ، وما بعدها مرفوع بالابتداء{[5]} ، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون » بالهمز ، واتصال هذه الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه ، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة ، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.