قرأ الجمهور : " والصَّابئُونَ " بالواو ، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار ، وفي رفعه تسعة أوجه :
أحدها : وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ به التأخيرُ ، والتقديرُ : إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك ، ونحوه : " إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ " ، [ أي : إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ ] ، فإذا فعَلْنا ذلك ، فهل الحذفُ من الأول أي : [ يكونُ ] خبرُ الثاني مثبتاً ، والتقديرُ : إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ ، فحذف " قائمٌ " الأول ، أو بالعكس ؟ قولان مشهوران ، وقد وَرَد كلٌّ منهما ؛ قال : [ المنسرح ]
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا *** عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ{[12304]}
أي : نحنُ راضُونَ ، وعكْسُه قوله : [ الطويل ]
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ *** فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ{[12305]}
التقدير : وقيارٌ بها كذلِكَ ، فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً ؟ فالجوابُ : أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ ب " إنَّ " ، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذان التقديران على هذا التخْريج ، قال الزمخشريُّ{[12306]} : " والصَّابئُونَ : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز " إنَّ " من اسمها وخبرها ؛ كأنه قيل : إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك : [ الوافر ]
وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ *** بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ{[12307]}
أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك " ثم قال بعد كلامٍ : " فإنْ قلْتَ : فقوله " والصَّابئُونَ " معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه ، فما هو ؟ قلت : هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله : { إنَّ الذِين آمَنُوا } إلى آخره ، ولا محلَّ لها ؛ كما لا محلَّ للتي عطفتْ عليها ، فإن قلتَ : فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً ، فما هي ؟ قلتُ : فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم ، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ ، فما الظنُّ بغيرهم ؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيًّا ، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها ، أي : خَرَجُوا ؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله : " وأنْتُمْ " ؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه ، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو " بُغاةٌ " ؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً ، فإن قُلْتَ : فلو قيل : " والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ " ، لكان التقديمُ حاصلاً ، قلت : لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء ؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه ، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه ، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض " .
الوجه الثاني : أنَّ " إنَّ " بمعنى " نَعَمْ " فهي حرفُ جوابٍ ، ولا محلَّ لها حينئذ ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ ، وخبرُ الجميعِ قوله : " مَنْ آمَنَ " إلى آخره ، وكونُها بمعنى " نَعَمْ " قولٌ مرجوحٌ ، قال به بعضُ النحْويِّين ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] في قراءةِ{[12308]} من قرأهُ بالألف ، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه ، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر : " إنَّ وصاحبهَا " جواباً لمنْ قال له : " لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ " ، أي : نَعَمْ وصاحِبهَا ، وجعل منه قول الآخر : [ الكامل ]
بَرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا *** بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ *** كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ{[12309]}
أي : نَعَمْ ، والهاءُ للسكْتِ ، وأجيبَ : بأنَّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزُّبَيْرِ ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه ، والتقديرُ : إنَّها وصاحِبُهَا ملعونَانِ ، وتقدير البيتِ : إنَّهُ كذلِكَ ، وعلى تقدير أَنْ تكون بمعنى " نَعَمْ " ، فلا يَصِحُّ هنا جعلُهَا بمعناها ؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيءٌ تكونُ جواباً له ، و " نَعَمْ " لا تقعُ ابتداءَ كلامٍ ، إنما تقع جواباً لسؤالٍ ، فتكونُ تصديقاً له ، ولقائل أن يقول : يجوزُ أن يكُونَ ثَمَّ سُؤالٌ مقدَّرٌ ، وقد ذَكرُوا ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ منها قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] { لاَ جَرَمَ } [ هود : 22 ] ، قالوا : يُحتملُ أن يكونَ ردًّا لقائلِ كَيْتَ وكَيْتَ .
الوجه الثالث : أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في " هَادُوا " أي : هَادُوا هم والصَّابئُونَ ، وهذا قول الكسائيِّ ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء{[12310]} والزَّجَّاج{[12311]} . قال الزَّجَّاج : " هو خطأٌ من جهتَيْن " :
إحداهما : أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة ، وليس كذلك ، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ ، وإن جُعِلَ " هَادُوا " بمعنى " تَابُوا " من قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] لا من اليهوديَّة ، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك ؛ لأنَّ معنى " الَّذِينَ آمَنُوا " في هذه الآية ؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم ؛ لأنه يريد به المنافقين ؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى ، فقال : مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله ، فله كذا ، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين ، لم يحتجْ أنْ يقال : " مَنْ آمَنَ ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ " ، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ ، أعني : أنَّ " الَّذِينَ آمَنُوا " مؤمنُونَ نفاقاً ، ورَدَّه أبو البقاء{[12312]} ومكي{[12313]} بن أبي طالبٍ بوجهٍ آخر ، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه ، قال شهاب الدين : هذا لا يلزمُ الكسائيَّ ؛ لأنَّ مذهبه عدمُ اشتراطِ ذلك ، وإن كان الصحيحُ الاشتراطَ ، نعم ، يلزم الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ ، والله أعلم ، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء ، كما نقله غيره عن الكسائيِّ ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ ، ثم رجَع ، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ، ثم رجع إليه ، وعلى الجُمْلةِ ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان .
الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم " إنَّ " ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه ، لم تُغَيِّر معناه ، بل أكدَتْهُ ، غايةُ ما في الباب : أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، ولذلك اختصَّتْ هي و " أنَّ " بالفتح ، ولكن على رأي بذلك ، دون سائر أخواتها ؛ لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلاف " لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ " ، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه ، وأجرى الفراء{[12314]} الباب مُجْرًى واحداً ، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ ، وأنشد : [ الرجز ]
يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ *** فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ{[12315]}
فأتى ب " أنْتِ " ، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في " لَيْتَنِي " ، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك ؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك ، وجعلا منه قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ سبأ : 48 ] فرفعُ " علاَّم " عندهما على النعْتِ ل " رَبِّي " على المحلِّ ، وحكوا " إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ " ، وغلَّط سيبويه{[12316]} مَنْ قال من العرب : " إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ " ، فقال : " واعلمْ أنَّ قوماً من العرب يَغْلطُونَ فيقولونَ : إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ " ، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان ، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ ، وفي الجملة : فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ ، أعني : جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم " إنَّ " مطلقاً ، أعني قبل الخبر وبعده ، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر ، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر ، وليس بَشْيء ، وفي الجملة : ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ : مذهبُ المحقِّقين : المنعُ مطلقاً ، ومذهبُ بعضهم : التفصيلُ قبل الخَبَر ؛ فيمتنعُ ، وبعده ؛ فيجوز ، ومذهب الفراء{[12317]} : إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ ، جاز ذلك ؛ لزوال الكراهية اللفظية ، وحُكِيَ من كلامهم : " إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ " ، الرابع : مذهب الكسائيِّ : وهو الجوازُ مطلقاً ؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } الآية ، وبقول ضَابِئٍ البُرْجُمِيِّ : [ الطويل ]
فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ *** فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ{[12318]}
يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ *** حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ{[12319]}
وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ *** . . . {[12320]}
يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ{[12321]} *** . . .
وبقولهم : " إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ " ، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً ، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم ؛ نحو : " إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ " ، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ ؛ فقال : " فإنْ قلتَ : هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ " إنَّ " واسمها ، قلتُ : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ ، لا تقول : " إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ " ، فإنْ قلتَ : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلتَ : إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو ؟ قلتُ : لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ " إنَّ " واسمها ، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ ؛ لأنَّ الابتداء ينتظم الجزأيْنِ في عمله ، كما تنتظِمُها " إنَّ " في عملها ، فلو رَفَعْتَ " الصَّابِئُونَ " المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء ، وقد رفعت الخبر ب " إنَّ " ، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين " ، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به ، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه .
وضعَّف ابنُ الخطيب{[12322]} ما قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، قال : هذا الكلام ضَعِيفٌ وبَيَانُه من وجوه :
الأوَّل : أنَّ هذه الأشْيَاء التي يُسَمِّيها النَّحْويُّونَ : رَافِعَةً وناصبةً ، ليس معناهُ أنَّهَا كذلك لذَوَاتها ولأعْيَانِها ، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل ، بل المراد أنَّهُمَا مُعَرَّفانِ بحسَبِ الوضْعِ والاصْطِلاَح لهذه الحركات ، واجْتِمَاع المُعَرَّفَات الكَثيرَة على الشَّيْءِ والوَاحِدِ غير مُحَالٍ ، ألا ترى أنَّ جَمِيع أجْزَاء المُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ على وُجُودِ اللَّه تعالى ؟
الثاني : أنَّ هذا الجواب بناءٌ على أنَّ كلمة " إنَّ " مُؤثِّرة في نَصْبِ الاسْم ورفْعِ الخبر ، والكُوفِيُّونَ يُنْكِرون ذلك ، ويقولون : لا تَأثِير لهذا الحَرْفِ في رَفْعِ الخَبَرِ ألْبَتَّةً .
الثالث : أنَّ الأشْيَاء الكَثِيرة إذا عُطِفَتْ بَعْضُهَا على بَعْض ، فالخَبَرُ الوَاحِدُ لا يكُونُ خَبَراً عنهم ؛ لأنَّ الخبر عن الشَّيْءِ إخبارٌ عن تَعْريف حالِهِ وبيان صِفَتِهِ ، ومن المُحَال أن يكون حالُ الشَّيء وَصِفَتُهُ عينُ حَالِ الآخَرِ وعيْنُ صفتِهِ ، لامتناع قيام الصِّفة الواحدة للذَّوات المُخْتَلِفَة ، وإذا ثَبَتَ هذا ظهر أنَّ الخَبَر ، وإنْ كان في اللَّفْظِ واحِداً ، لكنَّه في التقدير مُتَعَدِّدٌ ، وإذا حصل التَّعَدُّدُ في الحقيقةِ ، لم يمتنع كَوْنُ البَعْضِ مرتَفِعاً بالخَبَر ، وبَعْض بالابْتِدَاء بهذا التَّقْدير ، ولم يلزم اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْن على مَرْفُوعٍ واحدٍ .
والذي يُحَقِّقُ ذلك أنَّهُ سَلَّم أنَّ بعد ذِكْرِ الاسْمِ وخَبَرهِ جَازَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ في المَعْطُوفِ عليه ، ولا شكَّ أنَّ هذا المَعْطُوفَ إنَّما جَازَ ذَلِكَ فيه ؛ لأنَّا نُضْمِرُ له خَبَراً ، وحَكَمْنَا بأنَّ ذلك الخَبَرَ المُضْمَر مُرْتَفِعٌ بالابْتِدَاء .
وإذا ثَبَت هذا فَنَقُول : إن قبل ذكر الخبر إذا عَطَفْنَا اسماً على اسم ، حكم صَريح العَقْل ، بأنَّهُ لا بُدَّ من الحُكْمِ بتقدير الخَبَرِ ، وذلك إنَّما يحصل بإضمار الأخْبَار الكَثِيرَة ، وعلى هذا التقديرِ يَسْقُطُ ما ذكر من الإلْزَام .
الوجه الخامس : قال الواحديُّ : " وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية : وهو أنْ تُضْمِرَ خبرَ " إنَّ " ، وتبتدىء " الصَّابِئُونَ " ، والتقدير : " إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هَادُوا يُرْحَمُونُ " على قولِ من يقولُ : إنَّهم مسْلِمُونَ ، و " يُعَذَّبُونَ " على قولِ من يقول : إنهم كفَّار ، فيُحْذَفُ الخبرُ ؛ إذ عُرِف موضِعُه ؛ كما حُذِف من قوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ } [ فصلت : 41 ] ، أي : يُعَاقَبُونَ " ثم قال الواحديُّ : وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريِّينَ ، غيرَ أنَّهم يُضْمِرُون خبر الابتداءِ ، ويجعلُونَ " مَنْ آمَنَ " خبرَ " إنَّ " ، وهذا على العكْسِ من ذلك ؛ لأنه جعل " مَنْ آمنَ " خبر الابتداء ، وحذفَ خبرَ " إنَّ " ، قال شهاب الدين : هو كما قال ، وقد نَبَّهْت على ذلك في قَوْلِي أولاً : إنَّ مِنْهُم مَنْ يُقَدِّر الحذف من الأوَّلِ ، ومنهم مَنْ يَعْكِسُ .
الوجه السادس : أنَّ " الصَّابِئُونَ " مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ؛ كمذهب سيبويه والخليلِ ، إلا أنه لا يُنْوى بهذا المبتدأ التأخيرُ ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها ، قال أبو البقاء{[12323]} : " وهو ضعيفٌ أيضاً ؛ لما فيه من لزومِ الحذْفِ والفصلِ " ، أي : لِما يلزمُ من الجَمْع بين الحذفِ والفَصْلِ ، ولا يَعْنِي بذلك ؛ أنَّ المكان من مواضع الحذف اللازمِ ؛ لأنَّ القرآن يلزمُ أنْ يُتْلَى على ما أُنْزِلَ ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ .
الوجه السابع : أنَّ " الصَّابِئُونَ " منصوبٌ ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرثِ وغيرهمُ الذين يَجْعَلون المثنَّى بالألفِ في كل حال ؛ نحو : " رأيْتُ الزَّيْدَانِ ، ومَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ " نقل ذلك مكي{[12324]} بن أبي طالب وأبو البقاء{[12325]} ، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها ؛ أنه رأى الألف علامةَ رفعِ المثنَّى ، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجرًّا ، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً ، فيبقى في حالةِ النصْب والجرِّ ؛ كما بَقِيت الألفُ ، وهذا ضعيفٌ ، بل فَاسدٌ .
الوجه الثامن : أنَّ علامةَ النصب في " الصَّابِئُونَ " فتحةُ النون ، والنونُ حرفُ الإعراب ، كهي في " الزَّيْتُونِ " و " عُرْبُونٍ " ، قال أبو البقاء{[12326]} : " فإنْ قيلَ : إنما أجاز أبو عليٍّ ذلك مع الياءِ ، لا مع الواوِ ، قيل : قد أجازه غيرُه ، والقياسُ لا يدفعُهُ " ، قال شهاب الدين : يشير إلى مسألة ، وهو : أن الفارسيَّ أجازَ في بعضِ جموعِ السَّلامة ، وهي ما جَرَتْ مجرى المكسَّرِ كَبنينَ وسِنينَ ؛ أن يَحُلَّ الإعرابُ نونها ؛ بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصَّةً دونَ الواوِ ، فيقال : " جاءَ البَنِينُ " ؛ قال : [ الوافر ]
وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ *** أباً بَرًّا ونَحْنُ لَهُ بَنِينُ{[12327]}
وفي الحديث : " اللَّهُمَّ ، اجْعَلْهَا عَلَيهِمْ سِنيناً كَسِنين يُوسُفَ " {[12328]} ؛ وقال : [ الطويل ]
دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَهُ *** لَعِبْنَ بِنَا شِيباً وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا{[12329]}
فأثْبَتَ النونَ في الإضافةِ ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ؛ ووجِّهتْ بأن علامة النصب فتحةُ النونِ ، وكانَ المشْهُورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسيُّ ، سأل أبو البقاء{[12330]} هذه المسألة ، وأجاب بأنَّ غيره يُجيزُهُ حتَّى مع الواو ، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه ، قال شهاب الدين : القياسُ يأباه ، والفرقُ بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في " شَرْحِ التَّسْهِيلِ " ، نعم ، إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ ، جاز فيه خمسةُ أوجه :
أحدها : أنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ ، ويصيرَ نظيرَ " الذون " ، فيقال : " جَاءَ الزَّيْدُونُ ورَأيْتُ الزَّيْدُونَ ومَرَرْتُ بالزَّيْدُونِ " ، ك " جَاءَ الذُونُ ورَأيْتُ الذونَ ومَرَرْتُ بالذونِ " ، هذا إذا سُمِّيَ به ، أمَّا ما دام جمعاً ، فلا أحْفَظُ فيه ما ذكره أبو البقاءِ ، ومن أثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نَفَى ، لا سيما مع تقدُّمِه في العلمِ والزمان .
الوجه التاسع : قال مكيٌّ{[12331]} : " وإنما رفع " الصَّابِئُونَ " ؛ لأن " إنَّ " لم يظهر لها عملٌ في " الَّذينَ " فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول " إنَّ " على الجملة " ، قلت : وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء{[12332]} ، أعني : أنه يجيز العطف على محلِّ اسم " إنَّ " إذا لم يظهر فيه إعرابٌ ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً .
قال ابنُ الخطيبِ{[12333]} مُعَلِّلاً قول الفرَّاء : أن " إنَّ " ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا ، وبيانُهُ مِنْ وجوه :
الأوَّلُ : أنَّ كلمة " إنَّ " لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل ، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ .
الثاني : أنَّها ، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط ، أمَّا الخَبَر ، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً ، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين .
والثالث : أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل ، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها ، والأمر هاهُنا كذلك ؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله " الَّذِين " وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ .
وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ : إذَا كان اسم " إنَّ " بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب ، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه ، فلا يَجُوز أن يُقَال : " إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان " لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب ، ويجُوزُ أن يُقَال : " إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا ، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا " والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ كَلِمَة " إنَّ " كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل ، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ ، فجاز الرَّفعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه ، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء ، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين ؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح ، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه ، فكَانَ ذلك أوْلَى .
وقرأ أبيُّ{[12334]} بن كعْبٍ ، وعثمان بنُ عفان ، وعائشةُ ، والجحْدَرِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، وجماعة : " والصَّابئينَ " بالياء ، ونقلها صاحب " الكَشَّاف " عن ابن كثيرٍ ، وهذا غير مشهُور عنه ، وهذه القراءةُ واضحةُ التخريج ؛ عطفاً على لفظِ اسْم " إنَّ " ، وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصْحَفِ ، فيه مخالفةٌ يسيرةٌ ، ولها نظائرُ كقراءة قُنْبُلٍ عن ابن كثيرٍ : { سراط } [ الفاتحة : 5 ] وبابه بالسين ، وكقراءة حمزة إيَّاهُ في روايةٍ بالزَّاي ، وهو مرسومٌ بالصَّاد في سائر المصاحِف ، ونحو قراءة الجميع : { إيلافهم } [ قريش : 1 ] بالياء ، والرسم بدونها في الجميعِ ، وقرأ الحسن البصريُّ والزهريُّ{[12335]} : " والصَّابيُون " بكسر الباء بعدها ياءٌ خالصة ، وهو تخفيف للهمزة ، كقراءة من قرأ : { يستهزيون } [ الأنعام : 5 ] بخلوص الياء ، وقد تقدَّم قراءة نافعٍ في البقرة [ الآية 62 ] .
وأما " النَّصَارى " ، فهو منصوب عطْفاً على لفظ اسمِ " إنَّ " ، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعاً على ما رفع به " الصابئُونَ " ؛ لكلفةِ ذلك .
قوله تعالى : " مَنْ آمَنَ " يجوز في " مَنْ " وجهان :
أحدهما : أنها شرطيةٌ ، وقوله : " فلا خَوْفٌ " إلى آخره جوابُ الشرط ، وعلى هذا ف " آمَنَ " في محل جزمٍ بالشرط ، و " فلا خَوْفٌ " في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه ، والفاءُ لازمةٌ .
والثاني : أن تكون موصولةً والخبر " فلا خوفٌ " ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ ، ف " آمَنَ " على هذا لا محلَّ له ؛ لوقوعه صلةً ، و " فَلا خَوفٌ " محلُّه الرفعُ لوقوعه خبراً ، والفاءُ جائزةُ الدخولِ ، لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين ، فمحلُّ " مَنْ " رفعٌ بالابتداء ، ويجوز على كونها موصولةً : أن تكون في محلِّ نصب بدلاً من اسم " إنَّ " وما عُطِف عليه ، أو تكون بدلاً من المعطوفِ فقط ، وهذا على الخلافِ في " الَّذِينَ آمَنُوا " : هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً ، أو المؤمنونَ نِفَاقاً ؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة ، فالعائدُ من هذه الجملة على " مَنْ " محذوفٌ ، تقديرُه : " مَنْ آمن مِنْهُمْ " ؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر ، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى .
معنى قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } ، أي : باللِّسَان وقوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } بالقَلْبِ ، وعلى هذا فالمُرَادُ بِهِم : المنافقون ، وقيل : إنَّ الذين على حقيقةِ الإيمان { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي : ثبتَ على الإيمان باللَّه واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون .
الأولى : أن المُنَافِقِين كانوا يَزْعُمُون أنَّهُم مُؤمِنُون ، فأخْرَجَهُمْ بهذا التكرير عن [ وعد ] عدمِ الخَوْف ، وعدمِ الحزن .
والثاني : أنَّهُ تعالى ذكر لَفْظَ الإيمان ، والإيمانُ يدخل تحته أقسامٌ : فأشرُفها : الإيمان باللَّهِ واليوم الآخر ، فكرره تنبيهاً على أنَّ هذيْنِ القسمَيْن أشْرَف أقْسَام الإيمان .
وقد تقدَّمَ في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } [ المائدة : 35 ] كلامٌ يناسب هذا الموضع .
واعلم أنَّه لما بَيَّنَ أن أهل الكِتاب ليسُوا على شَيء ما لم يُؤمِنُوا بيَّن أنَّ هذا الحُكْمَ عامٌّ في الكُلِّ ، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ لأحدٍ فضيلة إلاَّ إذا آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخَرِ ، وعَمِلَ صَالِحاً .
قالت المُعَتزِلَة{[12336]} : إنَّه تعالى شرَطَ عدمَ الخَوْفِ والحُزْن بالإيمان والعَمَلِ الصَّالح ، والمشروط بالشَّيء عدم عند عدمِ الشَّرْطِ ، فإنْ لم يَأتِ مع الإيمان بالعملِ الصَّالِح ، فإنَّهُ يحصل له الخَوْفُ والحزن ، وذلكَ يَمْنَعُ من العَفْوِ عن صاحبِ الكَبيرَة .
والجواب : أنَّ صاحِبَ الكَبيرَةِ لا يقطعُ بأنَّ الله يَعْفُو عنه لا مَحَالَة ، فكان الخَوْفُ والحزن حاصِلاً قبل إظهَارِ العَفْو والله أعلم .