الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (69)

قوله تعالى : { وَالصَّابِئُونَ } : الجمهور على قراءته بالواو وكذلك هو في مصاحف الأمصار . وفي رفعةِ تسعة أوجه ، أحدها : وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة : الخليل وسيبويه وأتباعِهما - أنه مرفوع بالابتداء وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأول عليه ، والنيةُ به التأخيرُ ، والتقدير : إنَّ الذين آمنوا والذين هادُوا مَنْ آمنَ بهم إلى آخره والصابئون كذلك ، ونحوه : " إن زيداً وعمروٌ قائمٌ " أي : إنَّ زيداً قائم وعمرو قائم ، فإذا فَعَلْنا ذلك فهل الحذفُ من الأول / أي : يكونُ خبرُ الثاني مثبتاً ، والتقدير : إنَّ زيداً قائمٌ وعمروٌ قائم ، فحذف " قائم " الأول أو بالعكس . ؟ قولان مشهوران وقد وَرَد كلٌّ منهما : قال :

نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما *** عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ

أي : نحن رضوان ، وعكسه قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ

التقدير : وقيارٌ بها كذلك ، فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أَنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً ؟ فالجوابُ أنه يلزم من ذلك دخولُ اللام في خبر المبتدأ غيرِ المنسوخِ ب " إنَّ " وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضرورة شعر ، فالآية يجوز فيها هذان التقديران على التخريج . قال الزمخشري : " والصابئون : رفعٌ على الابتداء ، وخبرُه محذوفٌ ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز " إنَّ " من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كذلك والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك :

وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ *** بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ

أي : فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنتم كذلك " ثم قال بعد كلام : " فإنْ قلت : فقوله " والصابئون " معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو ؟ قتل : هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره ، ولا محلَّ لها كما لا محلَّ للتي عَطَفَتْ عليها . فإن قلت : فالتقديمُ والتأخير لا يكون إلا لفائدةً فما هي ؟ قلت : فائدتُه التنبيه على أن الصابئين يُتاب عليهم إنْ صَحَّ منهم الإِيمان والعملُ الصالحُ فما الظنُّ بغيرهم ؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدُّهم عتياً ، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَؤوا على الأديان كلها أي : خَرَجوا ، كما أن الشاعر قدَّم قولَه : " وأنتم " تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغي من قومِه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو " بُغاةٌ " ؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغي قبلهم مع كونِهم أوغَل فيه منهم وأثبت قدماً . فإن قلت : فلو قيل : " والصابئين وإياكم " لكانَ التقديمُ حاصلاً . قلت : لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه ، وإنما يُقال مقدمٌ ومؤخرٌ للمُزال لا للقارِّ في مكانه ، وتجري هذه الجملة مَجْرى الاعتراض " .

الوجه الثاني : أن " إنَّ " بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ ، ولا محلَّ لها حينئذ ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع ، وخبرُ الجميع قوله : { مَنْ آمَنَ } إلى آخره ، وكونُها بمعنى " نعم " قولٌ مرجوح ، قال به بعضُ النحويين ، وجَعَل من ذلك قول تعالى : { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } [ طه : 63 ] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف ، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه ، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير : " إنَّ وصاحبُها " جواباً لمن قال له : " لَعَن الله ناقة حملتني إليك " أي : نعم وصاحبُها ، وجَعَلَ منه قولَ الآخر :

بَرَزَ الغواني في الشبا *** بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ

ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا *** كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ

أي : نعم والهاءُ للسكت ، وأُجيب بأنَّ الاسمَ والخبرَ محذوفان في قولِ ابن الزبير ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه ، والتقدير : إنها وصاحبها معلونان ، وتقدير البيت : إنه كذلك ، وعلى تقديرِ أن تكونَ بمعنى " نعم " فلا يَصِحُّ هنا جَعْلُها بمعناها ؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيء تكون جواباً له ، و " نعم " لا تقع ابتداءَ كلام ، إنما تقع جواباً لسؤال فتكونُ تصديقاً له . ولقائل أن يقولَ : " يجوزُ أن يكونَ ثَمَّ سؤالٌ مقدر ، وقد ذكروا ذلك في مواضع كثيرةٍ منها قولُه تعالى : { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] { لاَ جَرَمَ } [ هود : 22 ] ، قالوا : يُحتمل أن يكونَ رَدَّاً لقائلِ كيتَ وكيتَ .

الوجه الثالث : / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في " هادوا " أي : هادوا هم والصابئون ، وهذا قول الكسائي ، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج : " هو خطأ من جهتين " إحداهما : أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية ، وليس كذلك ، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي ، وإن جُعِل " هادوا " بمعنى تابوا من قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] لا من اليهودية ، ويكون المعنى : تابوا هم والصابئون ، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك ؛ لأنَّ معنى " الذين آمنوا " في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين ، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم ، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال : مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا ، فجعَلَهم يهوداً ونصارى ، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال : " مَنْ آمنَ فلهم أجرهم " . قلت : هذا على أحدِ القولين أعني أن " الذين آمنوا " مؤمنون نفاقاً . ورَدَّه أبو البقاء ومكي ابن أبي طالب بوجهٍ آخرَ وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعطوفِ عليه . قلت : هذا لا يلزمُ الكسائي ، لأنَّ مذهبَه عدمُ اشتراط ذلك ، وإنْ كان الصحيحُ الاشتراطَ ، نعم يلزم الكسائي من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحة ، والله أعلم .

وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء ، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي ، وردَّ عليه بما تقدَّم ، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع ، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه ، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان .

الوجه الرابع : أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم " إنَّ " لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء ، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته ، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً ، ولذلك اختصَّتْ هي و " أن " بالتفح ، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها ، بخلافِ ليت ولعل وكأن ، فإنه خَرَج إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه ، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً ، فأجاز ذلك في ليت ولعل ، وأنشد :

يا ليتني وأنتِ يا لميسُ *** في بلدٍ بها أنيسُ

فأتى ب " أنت " ، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في " ليتني " ، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك ؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ ذلك وجَعَلا منه قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ سبأ : 48 ] فرفعُ " عَلاَّم " عندهما على النعت ل " ربي " على المحلِّ ، وحكوا " إنهم أجمعون ذاهبون " ، وغَلَّط سيبويه مَنْ قال مِن العرب : إنهم أجمعون ذاهبون " فقال : " واعلم أنَّ قوماً من العرب يغْلَطون فيقولون : " إنهم أجمعون ذاهبون " وأخذ الناس عليه في ذلك من حيث إنه غَلَّط أهل اللسان ، وهم الواضعون او المتلقُّون من الواضع ، وأُجيب بأنهم بالنسبةِ إلى عامة العرب غالطون وفي الجملة فالناسُ قد رَدُّوا هذا المذهبَ ، أعني جوازَ الرفعِ عطفاً على محلِّ اسم " إنَّ " مطلقاً ، أعني قبلَ الخبرِ وبعده ، خَفِي إعرابُ الاسمِ أو ظهر . ونقل بعضُهم الإِجماع على جوازِ الرفعِ على المحلِّ بعد الخبر ، وليس بشيء ، وفي الجملةِ ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ : مذهبُ المحققين : المنعُ مطلقاً ، ومذهبُ بعضهم ، التفصيل قبل الخبر فيمتنع ، وبعده فيجوز ، ومذهب الفراء : إنْ خَفِي إعرابُ الاسم جاز ذلك لزوال الكراهية اللفظية ، وحُكِي من كلامهم : " إنك وزيد ذاهبان " الرابع : مذهب الكسائي : وهو الجوازُ مطلقاً ويَسْتدل بظواهرِ قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } الآية ، وبقوله : - وهو ضابئ البرجمي –

فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه *** فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ

وبقوله :

يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ *** حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ

وبقوله :

وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت ، / وبقوله :

يا ليتني وأنتِ يا لميسُ ***

وبقولهم : " إنك وزيدٌ ذاهبان " وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً ، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو : " إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان " وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال : " فإنْ قلت : هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل " إنَّ " واسمها .

قلت : لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : " إنَّ زيداً وعمرو منطلقان " فإنْ قلت : لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ ، وكأنك قلت : إنَّ زيداً منطلق وعمرو ؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعتُه على محل " إنَّ " واسمِها ، والعاملُ في محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر ؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله ، كما تنتظِمُها " إنَّ " في عمِلها ، فلو رَفَعْتَ " الصابئون " المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب " إنَّ " لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين " وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر ، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه .

الخامس : قال الواحدي : " وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية : وهو أَنْ تُضْمِرَ خبرَ " إنَّ " وتبتدئ " الصابئون " والتقدير : " إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا يُرْحَمُون " على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون ، و " يُعَذَّبون " على قولِ مَنْ يقول إنهم كفار ، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه ، كما حُذِف مِنْ قولِه : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ }

[ فصلت : 41 ] أي : " يُعاقَبون " ثم قال الواحدي : " وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريين ، غيرَ أنَّهم يُضْمِرون خبرَ الابتداءِ ، ويَجْعلون " مَنْ آمن " خبرَ " إن " ، وهذا على العكس من ذلك لأنه جَعَل " مَنْ آمَن " خبرَ الابتداء وحَذَفَ خبرَ " إنَّ " قلت : هو كما قال ، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في قولي أولاً : إنَّ منهم مَنْ يُقَدِّر الحذفَ مِن الأول ، ومنهم مَنْ يعكس .

السادس : أنَّ " الصابئون " مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل ، إلا انه لا يُنْوى بهذا المبتدأِ التأخيرُ ، فالفرقُ بينه وبين مذهبِ سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها . قال أبو البقاء " وهو ضعيفٌ أيضاً ؛ لِما فيه من لزومِ الحذفِ والفصلِ " أي : لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ ، ولا يَعْني بذلك أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلَى على ما أُنْزِل ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ .

السابع : أنَّ " الصابئون " منصوبٌ ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرِهم الذين يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو : " رأيت الزيدان ومررت بالزيدان " نقلَ ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء ، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها أنه رأى الألفَ علامةَ رفعِ المثنى ، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجراً ، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً ، فيبقى في حالةِ النصب والجر كما بَقِيت الألف ، وهذا ضعيفٌ بل فاسدٌ .

الثامن : أنَّ علامةَ النصبِ في " الصابئون " فتحةُ النون ، والنونُ حرفُ الإِعراب كهي في " الزيتون " و " عربون " قال أبو البقاء : " فإنْ قيل : إنما أجاز أبو علي ذلك مع الياءِ لا مع الواوِ قيل : قد أجازه غيرُه ، والقياسُ لا يَدْفَعُه " قلت : يشير إلى مسألة وهو : أن الفارسي أجازَ / في بعضِ جموع السلامة وهي ما جَرَتْ مَجْرى المكسِّر كبنين وسنين أن يَحُلَّ الإِعرابُ نونَها ، بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصةً دونَ الواوِ فيقال : " جاء البنينُ " قال :

وكان لنا أبو حسن عليٌّ *** أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ

وفي الحديث : " اللهم اجْعَلْها عليهم سنيناً كسنينِ يوسف " .

وقال :

دعانيَ مِنْ نجدٍ فإنَّ سنينَه *** لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا مُرْدَا

فأثْبَتَ النونَ في الإِضافة ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ ووجِّهت بأن علامة النصبِ فتحةُ النونِ ، وكان المشهورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسي ، سأل أبو البقاء هذه المسألةَ . وأجاب بأنَّ غيرَه يُجيزه حتى مع الواو ، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه . قلت : القياسُ يأباه ، والفرقُ بينه حالَ كونه بالياء وبين كونِه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في " شرح التسهيل " نعم إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ جاز فيه خمسةُ أوجه ، أحدُها : أَنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ ، ويصيرَ نظيرَ " الَّذُوْن " فيقال : " جاء الزيدون ورأيت الزيدون ومررت بالزيدون " ك " جاء الذون ورأيت الذون ومررت بالذون " هذا إذا سُمِّي به ، أمَّا ما دام جمعاً فلا أحفظُ فيه ما ذكره أبو البقاء ، ومن أَثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نفى لا سيما مع تقدُّمِه في العلم والزمان .

التاسع : قال مكي : " وإنما رفع " الصابئون " لأن " إنَّ " لم يظهر لها عملٌ في " الذين " فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول " إنَّ " على الجملةَ " قلت : هذا هو بعينه مذهب الفراء ، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم " إنَّ " إذا لم يظهر فيه إعراب ، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً .

وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة : " والصابئين " بالياء ، ونقلها صاحب " الكشاف " عن ابن كثير ، وهذا غير مشهور عنه ، وهذه القراءة واضحةُ التخريجِ عطفاً على لفظِ اسم " إنَّ " وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة ، ولها نظائرُ كقراءة قنبل عن ابن كثير : { سراط } وبابِه بالسين ، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي ، وهم مرسومٌ بالصاد في سائر المصاحف ، ونحو قراءةِ الجميع : { إيلافهم } بالياء ، والرسم بدونها في الجميع .

وقرأ الحسن البصري والزهري : { والصابِيُون } بكسر الباء بعدها ياء خالصة ، وهو تخفيف للهمزة كقراءة من قرأ { يَسْتهزِيُون } بخلوص الياء ، وقد تقدم قراءة نافع في البقرة . وأما " النصارى " فهو منصوب عطفاً على لفظ اسمِ " إنَّ " ولا حاجةَ إلى ادِّعاء كونِه مرفوعاً على ما رفع به " الصابئون " لكلفةِ ذلك .

قوله تعالى : { مَنْ آمَنَ } يجوز في " مَنْ " وجهان ، أحدهما : أنها شرطيةٌ ، وقوله : " فلا خوفٌ " إلى آخره جواب الشرط ، وعلى هذا ف " آمن " في محل جزم بالشرط ، و " فلا خوف " في محل جزم بكونه جوابَه ، والفاءُ لازمةٌ . والثاني : أن تكونَ موصولةً والخبر " فلا خوف " ، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ ، ف " آمَنَ " على هذا لا محلَّ له لوقوعه صلةً ، و " فلا خوفٌ " محلُّه الرفعُ لوقوعِه خبراً ، والفاءُ جائزةُ الدخولِ لو كان في غير القرآن ، وعلى هذين الوجهين فمحلُّ " مَنْ " رفعٌ بالابتداء ، ويجوز على كونِها مصولةً أن تكونَ في محل نصب بدلاً من اسم " إنَّ " وما عُطِف عليه ، أو تكون بدلاً من المعطوف فقط ، وهذا الخلافِ في " الذين آمنوا " : هل المرادُ بهم المؤمنون حقيقةً ، أو المؤمنون نفاقاً ؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدمة فالعائدُ من هذه الجملة على " مَنْ " محذوفٌ تقديرُه : مَنْ آمَنَ منهم " كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ وتقدَّم إعرابُ باقي الجملة فيما مضى .