قوله تعالى : { وكذب الذين من قبلهم } من الأمم رسلنا ، وهم : عاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وغيرهم ، { وما بلغوا } يعني : هؤلاء المشركين ، { معشار } أي : عشر ، { ما آتيناهم } أي : أعطينا الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر ، { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } أي : إنكاري وتغييري عليهم ، يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية .
ثم خوفهم ما فعل بالأمم المكذبين [ قبلهم ] فقال : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا } أي : ما بلغ هؤلاء المخاطبون { مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ } { فَكَذَّبُوا } أي : الأمم الذين من قبلهم { رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : إنكاري عليهم ، وعقوبتي إياهم . قد أعلمنا ما فعل بهم من النكال ، وأن منهم من أغرقه ، ومنهم من أهلكه بالريح العقيم ، وبالصيحة ، وبالرجفة ، وبالخسف بالأرض ، وبإرسال الحاصب من السماء ، فاحذروا يا هؤلاء المكذبون ، أن تدوموا على التكذيب ، فيأخذكم كما أخذ من قبلكم ، ويصيبكم ما أصابهم .
ويلمس قلوبهم بتذكيرهم بمصارع الذين كذبوا من قبل . وهم لم يؤتوا معشار ما أوتي أولئك الغابرون . من علم ، ومن مال ، ومن قوة ، ومن تعمير . . فلما كذبوا الرسل أخذهم النكير . أي الهجوم المدوي المنكر الشديد :
( وكذب الذين من قبلهم - وما بلغوا معشار ما آتيناهم - فكذبوا رسلي . فكيف كان نكير ? ) . .
ولقد كان النكير عليهم مدمراً مهلكاً . وكانت قريش تعرف مصارع بعضهم في الجزيرة . فهذا التذكير يكفي . وهذا السؤال التهكمي ( فكيف كان نكير ? )سؤال موح يلمس قلوب المخاطبين . وهم يعرفون كيف كان ذلك النكير !
ثم هددهم فقال : { وكذب الذين من قبلهم } كما كذبوا . { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال ، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى . { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله ، ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير والثاني للتكذيب ، أو الأول مطلق والثاني مقيد ولذلك عطف عليه بالفاء .
ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم ، وقوله { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } يحتمل ثلاثة معان : أحدها أن يعود الضمير في { بلغوا } على قريش ، وفي { آتيناهم } على الأمم { الذين من قبلهم } ، والمعنى من قوة والنعم والظهور في الدنيا ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، والثاني أن يعود الضمير في { بلغوا } على الأمم المتقدمة وفي { آتيناهم } على قريش ، والمعنى من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به ، والثالث أن يعود الضميران على الأم المتقدمة ، والمعنى من شكر النعمة وجزاء المنة و «المعشار » ، ولم يأت هذا البناء إلا في العشرة والأربعة فقالوا : مرباع ومعشار وقال قوم : المعشار عشر العشر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ليس بشيء ، والنكير مصدر كالإنكار في المعنى وكالعديد في الوزن وسقطت الياء منه تخفيفاً لأنها آخر آية ، و { كيف } تعظيم للأمر وليست استفهاماً مجرداً ، وفي هذا تهديد لقريش أي أنّهم معرضون لنكير مثله .
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذّبوه ، فموقع التسلية منه قوله : { وكذب الذين من قبلهم } ، وموقع التهديد بقية الآية ، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين ، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذَّبتْ رُسلَها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى : { فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً } [ الزخرف : 8 ] .
ومفعول { كذّب } محذوف دل عليه ما بعده ، أي كذبوا الرسل ، دل عليه قوله : { فكذبوا رسلي } .
وضمير { بلغوا } عائد إلى { الذين من قبلهم } ، والضمير المنصوب في { آتيناهم } عائد إلى { الذين كفروا } في قوله : { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا سحر مبين } [ سبأ : 43 ] . والمقام يردّ على كل ضمير إلى معاده ، كما تقدم قريباً عند قوله تعالى : { أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 41 ] .
والمِعشار : العشر ، وهو الجزء العاشر مثل المِرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية .
وذُكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله : { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } لا يستقيم معهما سياق الآية .
وجملة { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } معترضة ، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] .
والفاء في قوله : { فكذبوا رسلي } للتفريع على قوله : { وكذب الذين من قبلهم } باعتبار أن المفرع عطف عليه قوله : { فكيف كان نكير } ، وبذلك كانت جملة { فكذبوا رسلي } تأكيداً لجملة { وكذب الذين من قبلهم } ونظيره قوله تعالى : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا } في سورة القمر ( 9 ) ، ولكون الفاء الثانية في قوله : فكيف كان نكير } تأكيداً لفظياً للفاء في قوله : { فكذبوا رسلي } .
وقوله : { فكيف كان نكير } مفرع على قوله : { وكذب الذين من قبلهم } .
و ( كيف ) استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعُدَيل ابن الفرخ « فكيفَ رأيتَ الله أمْكَنَ منك » ، أي أمكنني منك ، في قصة هروبه .
فجملتا { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة { وكذب الذين من قبلهم } . والتقدير : وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل ، ولكن لما كانت جملة { وكذب الذين من قبلهم } مقصوداً منها تسلية الرسول ابتداءً جعلت مقصورة على ذلك اهتماماً بذلك الغرض وانتصاراً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خُصّت عِبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلاً للتكذيب وهو من مقامات الإِطناب ، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحداً اتحاد السبب لمسببين أو العلةِ لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم . وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنباً لثقل إعادة الجملة إعادةً ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول { كذب } وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي ، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى : { وكذَّب الذين من قبلهم } كما تقدم ، ونظيره قوله تعالى :
{ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [ القمر : 9 ] .
والنكير : اسم للإِنكار وهو عدّ الشيء منكراً ، أي مكروهاً ، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية .
والمعنى : فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره ، أي كان عقاباً عظيماً على وفق إنكارنا تكذيبهم .
و { نكير } بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم ، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها . وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون .