البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَكَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُواْ مِعۡشَارَ مَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ فَكَذَّبُواْ رُسُلِيۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (45)

{ وكذب الذين من قبلهم } : توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم ، وما آل إليه أمرهم ، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة ، وسيحل بهم ما حل بأولئك .

وأن الضميرين في : { بلغوا } وفي : { ما آتيناهم } عائدان على { الذين من قبلهم } ، ليتناسقا مع قوله تعالى : { فكذبوا } ، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم .

وقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد : الضمير في { بلغوا } لقريش ، وفي { ما آتيناهم } للأمم { الذين من قبلهم } .

والمعنى : وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال ، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك ؟ وقيل : الضمير في { بلغوا } عائد على { الذين من قبلهم } ، وفي { آتيناهم } على قريش ، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشاً من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به .

وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات ، والزمخشري ذكر الثاني ، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث ، قال : أي { الذين من قبلهم } ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان ، وذلك لأن كتاب محمد ، عليه السلام ، أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد ، عليه السلام ، أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفي ، وبيانه أشفى ، ويؤيد ما ذكرنا ، { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } تغني عن القرآن .

فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب ، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب ، وكان أولى . انتهى .

وعن ابن عباس : فليس أنه أعلم من أمّته ، ولا كتاب أبين من كتابه .

والمعشار مفعال من العشر ، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع ، ومعناهما : العشر والربع .

وقال قوم : المعشار عشر العشر .

قال ابن عطية : وهذا ليس بشيء . انتهى .

وقيل : والعشر في هذا القول عشر المعشرات ، فيكون جزأ من ألف جزء .

قال الماوردي : وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل .

وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { فكذبوا رسلي } ، وهو مستغنى عنه بقوله { وكذب الذين من قبلهم } ؟ قلت : لما كان معنى قوله : { وكذب الذين من قبلهم } ، وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه ، جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ، ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر ، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .

ويجوز أن ينعطف على قوله : { ما بلغوا } ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو ، فيفضل عليه .

{ فكيف كان نكير } : للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله . انتهى .

وفكيف : تعظيم للأمر ، وليست استفهاماً مجرداً ، وفيه تهديد لقريش ، أي أنهم معرضون لنكير مثله ، والنكير مصدر كالإنكار ، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل ، والفعل على وزن أفعل ، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر ، وحذفت إلى من نكير تخفيفاً لأنها أجزأته .