اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُواْ مِعۡشَارَ مَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡ فَكَذَّبُواْ رُسُلِيۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ} (45)

ثم بين أنهم كالذين من قبلهم كَذّبوا مثلَ عادٍ وثمودٍ وغيرهم .

قوله : { وَمَا بَلَغُوا } الظاهر أن الضمير في «بلغوا » وفي «آتيناهم » للَّذِين من قبلهم{[44786]} ليناسق قوله : { فَكَذَّبُوا رُسُلِي } يعني أنهم لم يبلغوا في شكر النعمة وجزاء المِنّة «مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ » من النعم والإحسان إليهم{[44787]} . وقيل : بل ضمير الرفع لقريش والنصب «للذين من قبلهم » وهو قول ابن عباس على معنى أنهم كانوا أكثر أموالاً ، وقيل : بالعكس على معنى إنا أعطيْنَا قريشاً من الآيات والبراهين ما لم نُعْطِ من قبلهم{[44788]} . واختلف في المعشار فقيل : هو بمعنى العُشْر بني مِفْعَال من لفظ العُشْر كالمِرْبَاع ، ولا ثالث لهما من ألفاظ العدد لا يقال : مِسْدَاس ولا مِخْمَاس{[44789]} ، وقيل : هو عُشْرُ العُشْرِ{[44790]} ، إلا أن ابن عطية أنكره وقال : ليس بشيء{[44791]} وقال المَاوَرْدِيُّ : المعشار هنا عُشْر العَشِيرِ{[44792]} ، والعَشِيرُ هو عُشْرُ العُشْرِ{[44793]} .

فيكون جزءاً من ألف قال : وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل{[44794]} .

فصل

المعنى أن هؤلاء المشركين ما بلغوا مِعْشَارَ ما أعطينا الأمم الخالية من النِّعْمَة والقوة{[44795]} وطول العُمْرِ فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ؟ أي إنكاري وتغييري{[44796]} عليهم يحذر كفار هذه الأمة عذاب الأمم الماضية وقيل : المراد وكذَّب{[44797]} الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم أي الذين من قبلهم ما بلغوا مِعْشَار ما آتينا قوم محمد من البَيَان والبُرْهان وذلك لأن كتاب محمد - عليه السلام- أكملُ من سائر الكتب وأوضح ومحمد - عليه السلام- أفضل من جميع الرسل وأفصح وبرهانه أوفى ، وبيانه أشفى ، ثم إن المتقدمين لما كذبوا بما جاءهم من الكتب وبما آتاهم من الرسل أنكر عليهم فكيف لا ينكر عليهم وقد كذبوا بأفصح{[44798]} الرُّسل وأوضح السُّبُل ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } يعني غير القرآن ما آتيناهم كتاباً «وَمَا أَرْسَلْنَا إلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِير » فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب فحمل الآية الثانية على إيتاء الكتاب أولى{[44799]} .

قوله : «فكذبوا » فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على «كَذِّبَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ » .

والثاني : أنه معطوف على «وما بلغوا »{[44800]} . وأوْضَحَهُما الزمخشري فقال : «فإن قلت : ما معنى «فكذبوا رسلي » وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِين مِنْ قَبْلِهِم } ؟ قلتُ : لما كان معنى قوله : { وَكَذَّبَ الِّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل سبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقْدَمَ فلانٌ على الكفر فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يعطف على قوله : { وَمَا بَلَغُوا } كقولك : مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عمرو فَيُفضِّلَ عليه »{[44801]} و «نَكِيرِ » مصدر مضاف لفاعله أي إنْكاري{[44802]} وتقدم حذف يائه وإثْبَاتُها{[44803]} .


[44786]:كلام في المعنى من البحر المحيط 7/289 والمصون 4/452.
[44787]:المرجعان السابقان.
[44788]:المرجعان السابقان.
[44789]:هو قول الزمخشري في الكشاف 3/294 والأخفش في معاني القرآن 2/663 والفراء في معاني القرآن أيضا 2/364 والزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/256 وقد قال الأخفش : {ولا يقولون هذا في سوى العشر}.
[44790]:قاله أبو حيان في البحر ناقلا له 7/290 والقرطبي في الجامع 14/310 والسمين في الدر 4/453.
[44791]:نقله عنه أبو حيان في بحره 7/290.
[44792]:المراجع السابقة.
[44793]:قال في اللسان عشر: "والعشر والعشير جزء من عشرة يطرد هذان البناءان في جميع الكسور والجمع أعشار وعشور وهو المعشار. وفي التنزيل : "وما بلغوا معشار ما آتيناهم". والعشير الجزء من أجزاء العشرة وجمع العشير أعشراء مثل نصيب وأنصباء ولا يقولون هذا في شيء سوء العشر، والعشير والعشر واحد مثل الثمين والثمن والسديس والسدس". اللسان: "ع ش ر" 2953.
[44794]:انظر: ما سبق من مراجع.
[44795]:في (ب) القوة وبالنعمة بتقديم القوة على النعمة وليس كما في "أ".
[44796]:في "ب" وتغيري بياء واحدة. وانظر هذا المعنى في غريب القرآن 358 ومجاز القرآن 2/150.
[44797]:قاله الرازي 25/267.
[44798]:كذا في الرازي وما في "ب" أوضح الرسل. وكلا اللفظين متقاربان.
[44799]:المراجع السابقة.
[44800]:الدر المصون 4/453 والكشاف 3/294.
[44801]:انظر: الكشاف للعلامة الزمخشري 3/294، وفيه "فتفضل عليه" بدل من فيفضل عليه بالتاء لا بالياء.
[44802]:بالمعنى من البحر 7/290. وقد قاله شهاب الدين في الدر 4/453 وقال في البحر 7/290: "والنكير مصدر كالإنكار وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل. والفعل على وزن أفعل كالنذير والعذير من أنذر وأعذر".
[44803]:يقصد: {ثم أخذتهم فكيف كان نكير} وهي الآية 44 من سورة الحج وقد أثبت الياء في الوصل والوقف يعقوب وأثبتها في الوصل فقط ورش وإثباتها وصلا ووقفا قراءة عشرية، بينما إثباتها في الوصل يدل على أنها سبعية. وانظر: السبعة لابن مجاهد 532 والإتحاف للبناء 36، والكشاف لمكي 2/209 والنشر 2/351 وتقريبه 163 وانظر: اللباب 6/150 ب ميكروفيلم.