معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

قوله تعالى : { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } . قيل : نزلت في المنافقين ، ومعنى يشرون أي : يشترون ، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة ، ومعناه : آمنوا ، ثم قاتلوا ، وقيل : نزلت في المؤمنين المخلصين ، معناه : فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي : يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارون الآخرة .

قوله تعالى : { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل } ، يعني يستشهد .

قوله تعالى : { أو يغلب } يظفر .

قوله تعالى : { فسوف نؤتيه } ، في كلا الوجهين .

قوله تعالى : { أجراً عظيماً } ، ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كان . أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { تكفل الله لمن جاهد في سبيل الله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته ، أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة .

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر ، أنا إسماعيل بن جعفر ، أنا محمد بن عمرو ابن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه من غنيمة وأجر ، أو يتوفاه فيدخله الجنة ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته ، ولا يغلق عنهم أبوابها . بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه ، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها .

وقيل : إن معناه : فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان ، الصادقون في إيمانهم { الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } أي : يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها .

فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء ، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك .

وأما أولئك المتثاقلون ، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا ، فيكون هذا نظير قوله تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا } إلى آخر الآيات . وقوله : { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } وقيل : إن معنى الآية : فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، فيكون على هذا الوجه " الذين " في محل نصب على المفعولية .

{ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله ، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله . { فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } زيادة في إيمانه ودينه ، وغنيمة ، وثناء حسنا ، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

71

ثم يمضي السياق يحاول أن يرفع ويطلق هؤلاء المبطئين المثقلين بالطين ! وأن يوقظ في حسهم التطلع إلى ما هو خير وأبقى . . الآخرة . . وأن يدفعهم إلى بيع الدنيا وشراء الآخرة . ويعدهم على ذلك فضل الله في الحالتين ، وإحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة :

( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله ، فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا ) . .

فليقاتل - في سبيل الله - فالإسلام لا يعرف قتالا إلا في هذا السبيل . لا يعرف القتال للغنيمة ولا يعرف القتال للسيطرة . ولا يعرف القتال للمجد الشخصي أو القومي !

إنه لا يقاتل للاستيلاء على الأرض ؛ ولا للاستيلاء على السكان . . لا يقاتل ليجد الخامات للصناعات ، والأسواق للمنتجات ؛ أو لرؤوس الأموال يستثمرها في المستعمرات وشبه المستعمرات !

إنه لا يقاتل لمجد شخص . ولا لمجد بيت . ولا لمجد طبقة . ولا لمجد دولة ، ولا لمجد أمة . ولا لمجد جنس . إنما يقاتل في سبيل الله . لإعلاء كلمة الله في الأرض . ولتمكين منهجه من تصريف الحياة . ولتمتيع البشرية بخيرات هذا المنهج ، وعدله المطلق " بين الناس " مع ترك كل فرد حرا في اختيار العقيدة التي يقتنع بها . . في ظل هذا المنهج الرباني الإنساني العالمي العام . .

وحين يخرج المسلم ليقاتل في سبيل الله ، بقصد إعلاء كلمة الله ، وتمكين منهجه في الحياة . ثم يقتل . . يكون شهيدا . وينال مقام الشهداء عند الله . . وحين يخرج لأي هدف آخر - غير هذا الهدف - لا يسمى " شهيدًا ولا ينتظر أجره عند الله ، بل عند صاحب الهدف الأخر الذي خرج له . . والذين يصفونه حينئذ بأنه " شهيد " يفترون على الله الكذب ؛ ويزكون أنفسهم أو غيرهم بغير ما يزكي به الله الناس . افتراء على الله !

فليقاتل في سبيل الله - بهذا التحديد . . من يريدون أن يبيعوا الدنيا ليشتروا بها الآخرة . ولهم - حينئذ - فضل من الله عظيم ؛ في كلتا الحالتين : سواء من يقتل في سبيل الله ؛ ومن يغلب في سبيل الله أيضا :

ومن يقاتل - في سبيل الله - فيقتل أو يغلب ، فسوف نؤتيه أجرا عظيمًا . .

بهذه اللمسة يتجه المنهج القرآني إلى رفع هذه النفوس ؛ وإلى تعليقها بالرجاء في فضل الله العظيم ، في كلتا الحالتين . وأن يهون عليها ما تخشاه من القتل ، وما ترجوه من الغنيمة كذلك ! فالحياة أو الغنيمة لا تساوي شيئا إلى جانب الفضل العظيم من الله . كما يتجه إلى تنفيرها من الصفقة الخاسرة إذا هي اشترت الدنيا بالآخرة ولم تشتر الآخرة بالدنيا [ ولفظ يشري من ألفاظ الضد فهي غالبا بمعنى يبيع ] فهي خاسرة سواء غنموا أو لم يغنموا في معارك الأرض . وأين الدنيا من الآخرة ؟ وأين غنيمة المال من فضل الله ؟ وهو يحتوي المال - فيما يحتويه - ويحتوي سواه ؟ !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

{ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } أي الذين يبيعونها بها ، والمعنى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة ، أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون ، والمعنى حثهم على ترك ما حكي عنهم . { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما } وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب ، ترغيبا في القتال وتكذيبا لقولهم { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } وإنما قال { فيقتل أو يغلب } تنبيها على أن المجاهد ينبغي أن يثبت في المعركة حتى يعز نفسه بالشهادة أو الدين ، بالظفر والغلبة وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل ، بل إلى إعلاء كلمة الحق وإعزاز الدين .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

هذا أمر من الله عز وجل للمؤمنين الذين وصفهم بالجهاد في سبيل الله ، و { يشرون } معناه : يبيعون في هذا الموضع ، وإن جاء في مواضع : يشترون ، فالمعنى هاهنا يدل على أنه بمعنى «يبيعون » ثم وصف الله ثواب المقاتل في سبيل الله ، فذكر غايتي حالتيه ، واكتفى بالغايتين عما بينهما ، وذلك أن غاية المغلوب في القتال أن يقتل ، وغاية الذي يقتل ويغنم أن يتصف بأنه غالب على الإطلاق ، «والأجر العظيم » : الجنة ، وقالت فرقة ، «فلْيقاتل » بسكون لام الأمر ، وقرأت فرقة «فلِيقاتل » بكسرها ، وقرأ محارب بن دثار «فيقتل أو يَغلب » على بناء الفعلين للفاعل ، وقرأ الجمهور { نؤتيه } بالنون ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «فسوف يؤتيه » بالياء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

الفاء : إمّا للتفريع ، تفريعِ الأمر على الآخرَ ، أي فُرّع { فليقاتل } على { خُذوا حذركم فانفروا } [ النساء : 71 ] ، أو هي فاء فصيحة ، أفصحت عمّا دلّ عليه ما تقدّم من قوله : { خذوا حذركم } وقوله : { وإنَّ منكم لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] لأنّ جميع ذلك اقتضى الأمر بأخذ الحِذر ، وهو مهيّء لطلب القتال والأمرِ بالنفير والإعلامِ بمن حالهم حال المتردّد المتقاعس ، أي فإذا علمتم جميع ذلك ، فالذين يقاتلون في سبيل الله هم الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة لا كلّ أحد .

{ ويشرون } معناه يبيعون ، لأنّ شرى مقابل اشترى ، مثل باع وابتاع وأكرى واكترى ، وقد تقدّم تفصيله عند قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة [ البقرة : 16 ] . فالذين يشرون الحياة الدنيا هم الذين يبذلونها ويرغبون في حظّ الآخرة . وإسنادُ القتال المأمور به إلى أصحاب هذه الصلة وهي : { يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } للتنويه بفضل المقاتلين في سبيل الله ، لأنّ في الصلة إيماء إلى علّة الخبر ، أي يبعثهم على القتال في سبيل الله بَذْلُهم حياتهم الدنيا لِطلب الحياة الأبدية ، وفضيحة أمر المبطّئين حتى يرتدعوا عن التخلّف ، وحتّى يُكشف المنافقون عن دخيلتهم ، فكان معنى الكلام : فليقاتل في سبيل الله المؤمنون حقّاً فإنّهم يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، ولا يفهم أحد من قوله : { فليقاتل في سبيل الذين يشرون } أنّ الأمر بالقتال مختصّ بفريق دون آخر ، لأنّ بذل الحياة في الحصول على ثواب الآخرة شيء غير ظاهر حتّى يعلّق التكليف به ، وإنّما هو ضمائر بين العباد وربّهم ، فتعيّن أنّ إسناد الأمر إلى أصحاب هذه الصلة مقصود منه الثناء على المجاهدين ، وتحقير المبطَّئين ، كما يقول القائل « ليس بعُشِّكِ فادرُجي » . فهذا تفسير الآية بوجه لا يعتريه إشكال . ودخل في قوله : { أو يغلب } أصناف الغلبة على العدوّ بقتلِهم أو أسرهم أو غنم أموالهم .

وإنّما اقتصر على القتل والغلبة في قوله : { فيُقتل أو يَغْلِب } ولم يزد أو يؤسر إباية من أن يذكر لهم حالة ذميمة لا يرضاها الله للمؤمنين ، وهي حالة الأسر ؛ فسكت عنها لئلاّ يذكرها في معرض الترغيب وإن كان للمسلم عليها أجر عظيم أيضاً إذا بذل جهده في الحرب فغلب إذ الحرب لا تخلو من ذلك ، وليس بمأمورٍ أن يلقي بيده إلى التهلكة إذا علم أنّه لا يجدي عنه الاستبسال ، فإنّ من منافع الإسلام استبقاءَ رجاله لدفاع العدوّ .