اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (74)

قوله : { الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ } فاعل ، " فليقاتل " و " يشرون " يحتمل وَجهيْن :

أحدهما : أن يكون بمعْنَى : يَشْتَرُون .

فإن قيل : قد تقرّر أن البَاء إنما تَدْخُل على المَتْرُوك{[8790]} ، والظَّاهرُ هنا أنها دخَلَتْ على المأخُوذ :

فالجواب : أن المراد ب " الذين يشترون " المُنَافقون المبطِّئون عن الجِهَادِ أمروا بأنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ، ويُخْلِصُوا الإيمان باللَّه ورسُولِهِ ويُجَاهِدُوا في سَبِيل اللَّه ، فلم نَدْخُل{[8791]} إلا على المَتْرُوك{[8792]} ؛ لأن المُنَافِقِين تاركون للآخِرَةِ{[8793]} آخِذُون للدُّنْيَا ، وتقدير الكَلاَمِ : فَلْيُقَاتِل الذين يَخْتَارُون الحياة الدُّنْيَا ، وعلى هذا التقدير فلا ، بل حَذْفٌ تقديره : آمِنُوا ثم قَاتِلُوا ؛ لاستحالة حُصُول الأمْرِ بشَرَائِعِ الإسْلام قبل حُصُول الإسْلامِ .

الثاني : أن " يشرون " بمعنى : يَبِيعُون .

قال ابْنُ مُفَرِّعٍ : [ مجزوء الكامل ]

وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي *** مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ{[8794]}

قالوا : وبَرْد هو غلامه ، وشريتُه بمعنى : بِعْتُه ، وتَمَنَّى الموت بعد [ بَيْعِه ]{[8795]} فيكُون المراد بالذين يَشْرُون : المؤمِنُون المُتَخَلِّفُون عن الجِهَادِ ؛ المؤثِرُون الآجِلَة على العَاجِلَة ، وتصير هذه الآية في كَوْنِ شَرَى تحتمل الاشْتِرَاء والبَيْعِ باعْتِبَارَيْنِ ؛ قوله - تعالى - : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] على ما سَيَأتِي - إن شاء الله تعالى - وقد تقدم شيء من هذا أوَّل البقرة [ الآية 16 ] والجمهور على سُكُون لام " فليقاتل " لأنها وَقَعَتْ بعد الفَاءِ [ والواو ] فأشبهَت اللفظة اكتفاءً ، وقرئ بكسرها ، وهو الأصل وأجاز إسْكانَها وكَسْرَهَا كهذه الآية ، وقوله - تعالى - : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الحج : 29 ] وقد قرئ بهما . والجمهور{[8796]} على بناء " فيقتل " للمفعُول ، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل .

والأوَّل أظهر ؛ لقوله : { أَو يَغْلِبْ } [ " ويقتل " ]{[8797]} " ويغلب " عطف على شَرْط ، والفَاءُ في " فسوف " جوابُهُ لا يجُوزُ حَذْفُهَا والمشهور [ إظهار ]{[8798]} هذه الباءِ عند الفَاءِ ، وأدْغَمَها أبُو عمرو والكسائي ، وهِشَام وخلاد بخلاف عَنْه .

والجمهور على " نؤتيه " بنون العظمة ، وطَلْحَة بن مصرف والأعمش : بياء الغَيْبَة ، وهما ظَاهِرَتَانِ .

وقدم قوله " فيقتل " لأنها دَرَجَة شهادة وهي أعْظَم من غَيْرِهَا ، وثَنَّى بالغَلَبَة ، وهي تَشْمَل نوعين : قتل أعْدَاء اللَّه ، والظَّفَر بالغَنِيمَة ، والأولى أعْظَم من الثَّانِية . انتهى .

فصل

المعنى : أن من قَاتَل في سَبيل اللَّهِ سواءٌ{[8799]} صار مَقْتُولاً لِلكُفَّار ، أو غالباً ، فسوف نُؤتيه أجْراً عظيماً ، ولا واسطة بَيْن هَاتَيْن الحَالَتَيْنِ . [ و ]{[8800]} إذا كان الأجْر حَاصِلاً على كُلِّ تَقدِير ، لم يكُن عملٌ أشْرَف من الجِهَادِ ، وهذا يَدُلُّ على أن المُجاهِد لا بُدَّ وأنْ يُوَطِّن نَفْسَهُ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ أحد أمْرَيْن : إمَّا أن يَقْتُله العَدُّوُّ{[8801]} {[8802]} ، وإمّا أن يغلبَ ، فإذا عَزَم على ذَلِك ، لم يفرَّ عن خَصْمه ، ولم يُحْجِم عن المُحَارَبة ، وإن دخل على غَيْر هذا [ العَزْم ]{[8803]} فما أسْرَعَ فِرَارَهُ .

روى أبو هُرَيْرَة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تكَفَّل اللَّه لِمَن جَاهَد في سبيل اللَّه [ لا يُخرِجُهُ إلا جِهَادٌ في سَبِيلِه ]{[8804]} وتصدِيِق كلمته ، بأن يُدخلَه الجَنَّة ، أو يرجعه إلى مَسْكَنِه الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مع ما نال من أجرٍ أو غَنِيمَةٍ " {[8805]} .

وعن أبي هُرَيْرَة - رضي الله عنه - ؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلُ المُجَاهِد في سَبِيل اللَّه ؛ كمثل القَانِتِ الصَّائم الَّذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا صيامٍ ، حتى يُرجِعه الله إلى أهْلِهِ بما يرجعُه من غَنِيمَة وأجْرٍ ، أو يتوفَّاه فَيَدْخُل الجَنَّة " {[8806]} .


[8790]:في ب: المبدول.
[8791]:في ب: يدخل.
[8792]:في ب: المبدول.
[8793]:في ب: باذلون الآخرة.
[8794]:ينظر: اللسان "شري"، والرازي 10/144.
[8795]:سقط في أ.
[8796]:ينظر: المحرر الوجيز 2/78، والبحر المحيط 3/307، والدر المصون 2/393.
[8797]:سقط في ب.
[8798]:سقط في أ.
[8799]:في ب: فنوى القتال سواء.
[8800]:سقط في ب.
[8801]:في ب: القدر.
[8802]:سقط في ب.
[8803]:سقط في ب.
[8804]:في ب: سكنه.
[8805]:أخرجه البخاري في كتاب الخمس: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أحلت لكم الغنائم (3123): كتاب التوحيد: باب "ولقد سبقت كلمتنا" (7457) ومسلم كتاب الإمارة باب 28 والنسائي كتاب الجهاد ب 12 والبيهقي (9/157) ومالك في "الموطأ" (443) وسعيد بن منصور (2311، 2312) من حديث أبي هريرة.
[8806]:أخرجه مالك في "الموطأ" (2/443 ـ 444) كتاب الجهاد: باب الترغيب في الجهاد (1) والبخاري (6/20) كتاب الجهاد والسير: باب تمني الشهادة (2797) ومسلم (3/1498) كتاب الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله (110/1878) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.