قوله تعالى : { وقيل } ، يعني : بعدما تناهى أمر الطوفان : { يا أرض ابلعي } ، تشربي ، { ماءك ويا سماء أقلعي } ، أمسكي ، { وغيض الماء } ، نقص ونضب ، يقال : غاض الماء يغيض غيضا إذا نقص ، وغاضه الله أي أنقصه ، { وقضي الأمر } فرغ من الأمر وهو هلاك القوم { واستوت } ، يعني السفينة استقرت ، { على الجودي } ، وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل ، { وقيل بعداً } ، هلاكاً ، { للقوم الظالمين } . وروي أن نوحا عليه السلام بعث الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين ، فعلم نوح أن الماء قد نضب ، فقيل إنه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت ، وطوق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان ، فمن ثم تأمن وتألف البيوت . وروي : أن نوحا عليه السلام ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ، ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه ، وهبطوا يوم عاشوراء ، فصام نوح ، وأمر جميع من معه بالصوم شكرا لله عز وجل . وقيل : ما نجا من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان الماء إلى حجزته ، وكان سبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج إليه من الشام ، فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك .
فلما أغرقهم الله ونجى نوحا ومن معه { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ } الذي خرج منك ، والذي نزل إليك ، أي : ابلعي الماء الذي على وجهك { وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي } فامتثلتا لأمر الله ، فابتلعت الأرض ماءها ، وأقلعت السماء ، فنضب الماء من الأرض ، { وَقُضِيَ الْأَمْرُ } بهلاك المكذبين ونجاة المؤمنين .
{ وَاسْتَوَتْ } السفينة { عَلَى الْجُودِيِّ } أي : أرست على ذلك الجبل المعروف في أرض الموصل .
{ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : أتبعوا بعد هلاكهم لعنة وبعدا ، وسحقا لا يزال معهم .
وتهدأ العاصفة ، ويخيم السكون ، ويقضى الأمر ، ويتمشى الاستقرار كذلك في الألفاظ وفي إيقاعها في النفس والأذن :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ، ويا سماء أقلعي ، وغيض الماء ، وقضي الأمر ، واستوت على الجودي ، وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
ويوجه الخطاب إلى الأرض وإلى السماء بصيغة العاقل ، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل فتبلع الأرض ، وتكف السماء :
( وقيل : يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) .
ابتلعته الأرض في جوفها وغار من سطحها .
ورست رسو استقرار على جبل الجودي . .
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
وهي جملة مختصرة حاسمة معبرة عن جوها أعمق تعبير . . ( قيل )على صيغة المجهول فلا يذكر من قال ، من قبيل لف موضوعهم ومواراته :
( وقيل بعدا للقوم الظالمين ) . .
بعدا لهم من الحياة فقد ذهبوا ، وبعدا لهم من رحمة الله فقد لعنوا ، وبعدا لهم من الذاكرة فقد انتهوا . . وما عادوا يستحقون ذكرا ولا ذكرى !
{ وقيل يا أرض ابلعِي ماءك ويا سماء أقلِعي } نوديا بما ينادى به أولو العلم وأمرا بما يؤمرون به ، تمثيلا لكمال قدرته وانقيادهما لما يشاء تكونيه فيهما بالأمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر إلى امتثال أمره ، مهابة من عظمته وخشية من أليم عقابه ، والبلع النشف والإقلاع والإمساك . { وغيض الماء } نقص . وقُضي الأمر } وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين . { واستوت } واستقرت السفينة . { على الجودي } جبل بالموصل وقيل بالشام وقيل بآمل . روي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار ذلك سنة . { وقيل بُعداً للقوم الظالمين } هلاكا لهم يقال بعد بعداً وبعداً إذا أبعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، والآية في غاية الفصاحة لفخامة لفظها وحسن نظمها والدلالة على كنه الحال مع الإيجاز الخالي عن الإخلال ، وفي إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل ، وأنه متعين في نفسه مستغن عن ذكره ، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره للعلم بأن مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهار .
وقوله تعالى : { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } الآية ، بناء الفعل للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت ، وكذلك بناء الأفعال بعد ذلك في سائر الآية ؛ وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين ، و «البلع » هو تجرع الشيء وازدراده ، فشبه قبض الأرض للماء وتسربه فيها بذلك ، وأمرت بالتشبيه وأضاف الماء إليها إذ هو عليها وحاصل فيها ، و «السماء » في هذه الآية ، إما السماء المظلة ، وإما السحب ، و «الإقلاع » عن الشيء تركه ، والمعنى : أقلعي عن الإمطار ، و { غيض } معناه نقص ، وأكثر ما يجيء فيما هو بمعنى جفوف{[6364]} كقوله : { وغيض الماء } ، وكقوله : { وما تغيض الأرحام وما تزداد }{[6365]} وأكثر المفسرين على أن ذلك في الحيض ، وكذلك قول الأسود بن يعفر :
. . . . . . . *** ما غيض من بصري ومن أجلادي{[6366]} ؟
وذلك أن الإنسان الهرم إنما تنقصه بجفوف وقضافة{[6367]} وقوله { وقضي الأمر } إشارة إلى جميع القصة : بعث الماء وإهلاك الأمم وإنجاء أهل السفينة . وروي أن نوحاً عليه السلام ركب في السفينة من عين وردة بالشام أول يوم من رجب ، وقيل : في العاشر منه ، وقيل : في الخامس عشر ، وقيل : في السابع عشر ، واستوت السفينة في ذي الحجة ، وأقامت على { الجودي } شهراً ، وقيل له : اهبط في يوم عاشوراء فصامه وصامه من معه من ناس ووحوش : وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، وذكر أيضاً حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم :
«أن نوحاً ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجودي ، فصامه نوح ومن معه »{[6368]} وروي أن نوحاً لما طال مقامه على الماء بعث الغراب ليأتيه بخبر كمال الغرق فوجد جيفة طافية فبقي عليها فلم يرجع بخبر ، فدعا عليه نوح فسود لونه وخوف من الناس ، فهو لذلك مستوحش ، ثم بعث نوح الحمام فجاءته بورق زيتونة في فمها ولم تجد تراباً تضع رجليها عليه ، فبقي أربعين يوماً ثم بعثها فوجدت الماء قد انحسر عن موضع الكعبة ، وهي أول بقعة انحسر الماء عنها ، فمست الطين برجليها وجاءته ، فعلم أن الماء قد أخذ في النضوب ، ودعا لها فطوقت وأنست . فهي لذلك تألف الناس ؛ ثم أوحى الله إلى الجبال أن السفينة ترسي على واحد منها فتطاولت كلها وبقي الجودي - وهو جبل بالموصل في ناحية الجزيرة - لم يتطاول تواضعاً لله ، فاستوت السفينة بأمر الله عليه ، وبقيت عليه أعوادها ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لقد بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة »{[6369]} وقال الزجاج : { الجودي } هو بناحية آمد{[6370]} . وقال قوم : هو عند باقردى{[6371]} . وروي أن السفينة لما استقلت من عين وردة جرت حتى جاءت الكعبة فوجدتها قد نشزت من الأرض فلم ينلها غرق فطافت بها أسبوعاً ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي .
قال القاضي أبو محمد : والقصص في هذه المعاني كثير صعب أن يستوفى ، فأشرت منه إلى نبذ ؛ ويدخله الاختلاف كما ترى في أمر الكعبة والله أعلم كيف كان . { واستوت } معناه : تمكنت واستقرت .
وقرأ جمهور الناس : «على الجوديِّ » بكسر الياء وشدها ، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة «على الجودي » بسكون الياء ، وهما لغتان . وقوله { وقيل : بعداً } يحتمل أن يكون من قول الله تعالى عطفاً على { وقيل } الأول ويحتمل أن يكون من قول نوح والمؤمنين ، والأول أظهر وأبلغ .