اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقِيلَ يَـٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

قوله تعالى : { وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ } قيل : هذا مجاز ، لأنَّها موات . وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به . والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها .

والبلعُ معروفٌ . والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء .

قيل : والفصيحُ " بَلِعَ " بكسر اللام " يَبْلَع " بفتحها . والإقلاعُ : الإمساك ، ومنه " أقْلَعَت الحُمَّى " . وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تره وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان ، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً ، ومغاضاً إذا نقص ، وغضته أنا . وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا . ومثله فغر الفَمُ وفغرته ، ودلع اللسانُ ودلعتهُ ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } [ الرعد : 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّي بنفسه .

والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ ، منه قول عمرو بن نفيل : [ البسيط ]

سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ *** وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ{[18826]}

قال شهابُ الدين{[18827]} : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ .

وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء " الجُودِيْ " .

قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب ، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي .

قوله " بُعْداً " منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر ، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً ، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك ، قال : [ الطويل ]

يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ *** ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ{[18828]}

واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو " سَقْياً لَكَ وَرَعْياً " ، وإمَّا أن تتعلق ب " قيل " ، أي : لأجلهم هذا القول .

قال الزمخشري{[18829]} : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله ، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل إلاَّ هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية ، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : " ابلَعِي وأقلعي " ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ .

فصل

في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى - .

فأولها : قوله : " وقِيلَ " وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه ، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر ؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ .

وثانيها : قوله : { يا أرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي } فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته .

وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : " يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ " مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل ، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً .

ورابعها : قوله : { وَقُضِيَ الأمر } ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع ، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه .

فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة .

ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة .

الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة .

وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم .

وقوله : { واستوت عَلَى الجودي } أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي . قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء .

{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ . وقيل : من كلام نوح وأصحابه ؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام .

قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين ؛ فأصبحوا ذات يومٍ ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم .


[18826]:البيت لورقة بن نوفل ينظر: الأغاني 3/115 وخزانة الأدب 3/338، 7/234، 236، 238، 243، والدرر 3/69 ولأمية بن أبي الصلت ينظر: ديوانه (30) والكتاب 1/326 واللسان (سبح) ولزيد بن عمرو بن نفيل ينظر شرح أبيات سيبويه 1/194 والدر المصون 4/103 وبلا نسبة في شرح المفصل 1/37، 12، 4/36، والمقتضب 3/217 وهمع الهوامع 1/190.
[18827]:ينظر: المحرر الوجيز 3/176، والبحر المحيط 5/229 والدر المصون 4/104.
[18828]:ينظر البيت في الدر المصون 4/103.
[18829]:ينظر: تفسير الكشاف 2/398.