قوله تعالى : { وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَآءَكِ } قيل : هذا مجاز ، لأنَّها موات . وقيل : جعل فيها ما تُمَيَّز به . والذي قال إنَّه مجازٌ قال : لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها ، وبلاغة وصفها ، واشتمال المعاني فيها .
والبلعُ معروفٌ . والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها : بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء .
قيل : والفصيحُ " بَلِعَ " بكسر اللام " يَبْلَع " بفتحها . والإقلاعُ : الإمساك ، ومنه " أقْلَعَت الحُمَّى " . وقيل : أقلع عن الشيء ، أي : تره وهو قريبٌ من الأول . والغَيْضُ : النقصان ، يقال : غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً ، ومغاضاً إذا نقص ، وغضته أنا . وهذا من باب فَعَلَ الشيءُ وفعلتهُ أنا . ومثله فغر الفَمُ وفغرته ، ودلع اللسانُ ودلعتهُ ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه ، وفعله لازم ومتعد ، فمن اللازم قوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } [ الرعد : 8 ] ، أي : تَنْقُص . وقيل : بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي ، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّي بنفسه .
والجُودِيُّ : جبلٌ بعينه بالموصل ، وقيل : بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ ، منه قول عمرو بن نفيل : [ البسيط ]
سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ *** وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ{[18826]}
قال شهابُ الدين{[18827]} : ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ .
وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء " الجُودِيْ " .
قال ابنُ عطيَّة : وهما لغتان : والصَّوابُ أن يقال : خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب ، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي .
قوله " بُعْداً " منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر ، أي : وقيل : ابعدُوا بُعْداً ، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو : جَدْعاً ، يقال : بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك ، قال : [ الطويل ]
يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ *** ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ{[18828]}
واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو " سَقْياً لَكَ وَرَعْياً " ، وإمَّا أن تتعلق ب " قيل " ، أي : لأجلهم هذا القول .
قال الزمخشري{[18829]} : ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء ، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله ، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره : يا أرضُ ابلعي ماءك ، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل إلاَّ هو ، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية ، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : " ابلَعِي وأقلعي " ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ .
في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى - .
فأولها : قوله : " وقِيلَ " وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه ، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر ؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ .
وثانيها : قوله : { يا أرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي } فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد ، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته .
وثالثها : أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات ، فقوله : " يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ " مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات ، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى ، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل ، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً .
ورابعها : قوله : { وَقُضِيَ الأمر } ومعناه : أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع ، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه ، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه .
فإن قيل : كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار ؟ .
الأول : قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة ، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة .
ولقائل أن يقول : لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة ، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر ، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة .
الجوابُ الثاني : أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة .
وقوله : { وَقُضِيَ الأمر } أي : فرغ منه ، وهو هلاك القوم .
وقوله : { واستوت عَلَى الجودي } أي : استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي . قيل : استوت يَوْمَ عاشوراء .
{ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } قيل : هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ . وقيل : من كلام نوح وأصحابه ؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : لمَّا عرف نوحٌ - عليه الصلاة والسلام - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين ؛ فأصبحوا ذات يومٍ ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، فكان نُوح - عليه الصلاة والسلام - يعبر عنهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.