السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقِيلَ يَـٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

{ و } لما تناهى الطوفان وأغرق قوم نوح { قيل } أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى { يا أرض ابلعي ماءك } أي : اشربيه { ويا سماء أقلعي } أي : أمسكي ماءك ، ناداهما بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل تمثيلاً لكمال انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما ، وهاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة . قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير بإبدال الثانية واواً خالصة والباقون بالتخفيف { وغيض الماء } أي : نقص وذهب ، وقرأ هشام والكسائي بإشمام الغين وهو ضم الغين قبل الياء والباقون بالكسر وكذا { وقيل } { وقضي الأمر } أي : وأنجز ما وعد من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين { واستوت } أي : استقرّت السفينة { على الجودي } وهو جبل بالجزيرة قريب من الموصل . وقيل ، أي : قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى : { بعداً } أي : هلاكاً { للقوم الظالمين } ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وبكون مكون قاهر ، وأن فاعلها واحد لا يشارك في أفعاله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره : { يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره ولا أن تستوي على متن الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره .

وروي أنّ السفينة لما استقرت بعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع ، فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ، ولطخت رجليها بالطين فعلم نوح أنّ الماء قد نقص ، فقيل : إنه دعا على الغراب بالخوف فلذا لا يألف البيوت ، وطوّق الحمامة الخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت . وروي أنّ نوحاً ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرّت بالبيت العتيق ، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه ، فطافت به السفينة سبعاً . وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح وأمر من معه بصيامه شكراً لله تعالى . وبنوا قرية بقرب الجبل وسميت سوق ثمانين فهي أوّل قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان . وقيل : إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان الماء يصل إلى حجزته وهذا لا يأتي على القول بإطباق الماء . قال هذا القائل : وسبب نجاته أنّ نوحاً احتاج إلى خشب ساج للسفينة فلم يمكنه نقله ، فحمله عوج إليه من الشام فنجاه الله تعالى من الغرق بذلك . فإن قيل : كيف أغرق الله تعالى من لم يبلغ الحلم من الأطفال ؟ أجيب : بأنه تعالى يتصرف في خلقه لا يسأل عما يفعل . وقيل : إنّ الله تعالى أعقم أرحام نسائهم أربعمائة سنة فلم يولد لهم تلك المدّة .