فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقِيلَ يَـٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

قوله : { وَقِيلَ يا أرض ابلعي مَاءكِ } يقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع ، وبلع يبلع ، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء : والبلع : الشرب ، ومنه البالوعة ، وهي : الموضع الذي يشرب الماء ، والازدراد ، يقال : بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده ، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج { ويا سماء أَقْلِعِي } الإقلاع : الإمساك ، يقال : أقلع المطر : إذا انقطع . والمعنى : أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال ، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها { وَغِيضَ الماء } أي : نقص ، يقال : غاض الماء وغضته أنا { وَقُضِىَ الأمر } أي : أحكم وفرغ منه : يعني : أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام { واستوت عَلَى الجوديّ } أي : استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي ، وهو جبل بقرب الموصل ؛ وقيل : إن الجودي : اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :

سبحانه ثم سبحانا نعوذ به *** وقبلنا سبح الجوديّ والجمد

ويقال : إنه من جبال الجنة ، فلذا استوت عليه { وَقِيلَ بُعْدًا للْقَوْمِ الظالمين } القائل : هو الله سبحانه ، ليناسب صدر الآية . وقيل : هو نوح وأصحابه . والمعنى : وقيل هلاكاً للقوم الظالمين ، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك ، وللإيماء إلى قوله : { وَلاَ تخاطبني فِي الذين ظَلَمُوا } . وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف ، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة ، الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة ، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب ، وأشعار بواقع شعرائهم ، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها . وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم ، فأطالوا وأطابوا ، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة .

/خ44