غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَقِيلَ يَـٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

25

وقوله سبحانه : { وقيل يأرض } الآية . مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد ههنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية . أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها . فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي - وهو جبل بقرب الموصل - فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته - العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويراً لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداماً وتغييراً وتصريفاً كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علماً يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل { قيل } بدل " أريد " مجازاً إطلاقاً للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته . وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : { يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء } والخطابان أيضاً على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين . وأيضاً استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ . ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضاً استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة { ابلعي } لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء . ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحاً لاستعارة النداء إذ كونه مخاطباً من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك . واختار ضمير الخطاب دون أن يقول " ليبلع ماؤها " لأجل الترشيح المذكور . ثم اختار مستعيراً لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في { ابلعي } من ترشيح استعارة النداء . ثم قال { وغيض الماء } غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى { وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً } فلم يصرح بالفاعل سلوكاً لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان .

وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير " يا " للنداء لأنها أكثر استعمالاً ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل " يا أرضي " بالإضافة تهاوناً بالمنادى ، ولم يقل " يا أيتها الأرض " للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه .

واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير { ابلعي } على { ابتلعي } لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين { أقلعي } أوفر . وقيل : { ماءك } بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء . ولم يحذف مفعول { ابلعي } لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض . ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من { أقلعي } حذراً من التطويل . وإنما لم يقل " ابلعي ماءك فبلعت " لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم . واختير { غيض } على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن { استوت } أخصر لسقوط همزة الوصل . ثم قيل : { بعداً للقوم } دون أن يقال " ليبعد القوم من بعد " بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة " لام " الملك على أن البعد حق لهم . وقول القائل " بعداً له " من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها . ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم . وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : { وفار التنور } ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : { وغيض الماء } ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله { وقضي الأمر } أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين . ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : { واستوت على الجودي } وكان جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة الماء . ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض . قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار ؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة . وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين . وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات . والظاهر أن القائل في قوله : { وقيل بعداً } هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحاً وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق .

وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه . وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه .

/خ49