نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقِيلَ يَـٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (44)

{ وقيل } أي{[39294]} بأدنى إشارة بعد هلاك أهل الأرض وخلوها من الكافرين وتدمير من في السهول والجبال من الخاسرين ، وهو من إطلاق المسبب - وهو القول - على السبب - وهو الإرادة - لتصوير أمر ومأمور هو في غاية الطاعة فإنه أوقع في النفس .

ولما كان كل شيء دون مقام الجلال والكبرياء والعزة بأمر{[39295]} لا يعلمه إلا الله ، دل على ذلك بأداة البعد فقال { يا أرض ابلعي } أي اجذبي من غير مضغ إلى مكان خفي بالتدريج ، وعين المبلوع لئلا يعم فتبتلع{[39296]} كل شيء على ظهرها من جبل وغيره ، ولذلك أفرد ولم يجمع فقال : { ماءك } أي الذي تجدد على ظهرك للإغراق ليكون كالغذاء للآكل الذي يقوي بدنه فيقوى به على الإنبات وسائر المنافع وجعله ماءها لاتصاله بها اتصال الملك بالمالك { ويا سماء أقلعي } أي أمسكي عن الإمطار ، ففعلتا مبادرتين لأمر الملك الذي{[39297]} لا يخرج عن مراده شيء { وغيض الماء } أي المعهود ، حكم عليه بالدبوب{[39298]} في أعماق الأرض ، من المتعدي فإنه يقال : غاض الماء وغاضه الله ، كما يقال : نقض الشيء ونقضته أنا { وقضي الأمر } أي فرغ وانبتّ وانبرم في إهلاك من هلك ونجاة من نجا كما أراد الجليل على ما تقدم به وعده نوحاً عليه السلام ، لم يقدر أحد أن يحبسه عنهم ولا أن يصرفه ولا أن يؤخره دقيقة ولا أصغر منها . فليحمد الله من أخر عنه العذاب ولا يقل ما " يحبسه " لئلا يأتيه مثل ما أتى هؤلاء أو من بعدهم { واستوت } أي استقرت واعتدلت السفينة { على الجودي } إشارة{[39299]} باسمه إلى أن الانتقام العام قد مضى ، وما بقي إلا الجود بالماء{[39300]} والخير والخصب والرحمة العامة ، وهو جبل بالموصل بعد خمسة أشهر ؛ قال قتادة : استقلت بهم لعشر خلون من رجب وكانت في الماء{[39301]} خمسين ومائة يوم ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وهبط بهم يوم عاشوراء { وقيل } أي إعلاماً بهوان المهلكين والراحة منهم { بعداً } هو من بعد - بالكسر مراداً به البعد من حيث الهلاك ، فإن حقيقته بعدُ بعيد لا يرجى منه عود ، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ، وعبر بالمصدر لتعليقه باللام الدالة على الاستحقاق والاختصاص { للقوم } أي المعهودين في هذه القصة التي كان فيها من شدة القيام فيما يحاولونه ما لا يعلمه أحد إلا الله{[39302]} { الظالمين* } أي العريقين في الظلم ، وهذه الآية تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعاً من البديع - عدها أبو حيان وقال : وروي أن أعرابياً سمعها فقال : هذا كلام القادرين . وذكر الرماني{[39303]} عدة من معانيها ، منها إخراج الأمر على جهة التعظيم لفاعله من غير معاناة ولا لغوب ، ومنها حسن تقابل المعاني ، ومنها حسن ائتلاف الألفاظ ، ومنها حسن البيان في تصوير الحال ، ومنها الإيجاز من غير إخلال ، ومنها تقبل الفهم على أتم الكمال ؛ والبلع : إجراء الشيء في الحلق إلى الجوف ؛ والإقلاع : إذهاب الشيء من أصله حتى لا يبقى له أثر ؛ والغيض : غيبة الماء في الأرض على جهة النشف{[39304]} وإبراز الكلام على البناء للمفعول أدل{[39305]} على الكبرياء والعظمة للفاعل للإشارة إلى أنه معلوم لأنه لا يقدر على مثل هذه الأفعال غيره ، ونقل الأصبهاني عن صاحب المفتاح فيها كلاماً أغلى من الجوهر .


[39294]:سقط من ظ.
[39295]:من ظ، وفي الأصل: يأمن.
[39296]:في ظ: فتبلع.
[39297]:في ظ: التي.
[39298]:في ظ: بالرسوب.
[39299]:في ظ: أشار.
[39300]:في ظ: والنماء.
[39301]:من ظ، وفي الأصل: الماية ـ كذا.
[39302]:زيد من ظ.
[39303]:في ظ: الكرمالي.
[39304]:في ظ: النسف.
[39305]:في ظ: دل.