قوله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان } . يعني ذلك الذي قال لكم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم من فعل الشيطان ألقي في أفواههم ليرهبوهم ويجبنوا عنهم .
قوله تعالى : { يخوف أولياءه } . أي يخوفكم بأوليائه ، وكذلك هو في قراءة أبي بن كعب يعني يخوف المؤمنين بالكافرين ، قال السدي : يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم ، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود يخوفكم أولياءه .
قوله تعالى : { فلا تخافوهم وخافون } . في ترك أمري .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . مصدقين بوعدي لأني متكفل لكم بالنصر والظفر .
ثم قال تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي : إن ترهيب من رهب من المشركين ، وقال : إنهم جمعوا لكم ، داع من دعاة الشيطان ، يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم ، أو ضعف . { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } أي : فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان ، فإن نواصيهم بيد الله ، لا يتصرفون إلا بقدره ، بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين منه{[175]} المستجيبين لدعوته .
وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده ، وأنه من لوازم الإيمان ، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله ، والخوف المحمود : ما حجز العبد عن محارم الله .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب ، وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان ، وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء ، ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر ، الذي ينبغي أن يخاف :
( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) .
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه ، ويلبسهم لباس القوة والقدرة ، ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول ، وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه ، وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد ، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب ، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ؛ ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم ، ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل ، وأن يتضخم الشر ، وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا ، لا تقف في وجهه معارضة ، ولا يصمد له مدافع ، ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة ، وفي ظل الإرهاب والبطش ، يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا ، والمنكر معروفا ، وينشرون الفساد والباطل والضلال ، ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل ، ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم ، ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له ، وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر ، يختفي وراء أوليائه ، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله ، ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة : حقيقة مكره ووسوسته ، ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ، ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله ، وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان :
{ إنما ذلكم الشيطان } يريد به المثبط نعيما أو أبا سفيان ، والشيطان خبر { ذلكم } وما بعده بيان لشيطنته أو صفته وما بعده خبر ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان يعني إبليس عليه اللعنة . { يخوف أولياءه } القاعدين عن الخروج مع الرسول ، أو يخوفكم أولياؤه الذين هم أبو سفيان وأصحابه . { فلا تخافوهم } الضمير للناس الثاني على الأول وإلى الأولياء على الثاني . { وخافون } في مخالف أمري فجاهدوا مع رسولي . { إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي إيثار خوف الله تعالى على خوف الناس .
مقتضى { إنما } في اللغة الحصر ، هذا منزع المتكلم بها من العرب ، ثم إذا نظر مقتضاها -عقلاً- وهذا هو نظرالأصوليين - فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر ، وهي في هذه الآية حاصرة ، والإشارة ب { ذلكم } إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين ، عن رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، ومن جزع من ذلك الخبر من مؤمن أو متردد ، و { ذلكم } في الإعراب ابتداء ، و { الشيطان } مبتدأ آخر ، و { يخوف أولياءه } خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأول ، وهذا الإعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون { الشيطان } خبر { ذلكم } لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة ، و { يخوف } فعل يتعدى إلى مفعولين ، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل ، لأنك إذا قلت : خوفت زيداً ، فمعلوم ضرورة أنك خوفته شيئاً حقه أن يخاف ، وقرأ جمهور الناس { يخوف أولياءه } فقال قوم المعنى : يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش ، فحذف المفعول الأول وقال قوم : المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه ، فإذاً لا يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه ، إذ لستم بأوليائه ، والمعنى : يخوفهم كفار قريش ، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول ، وقرأ ابن عباس فيما حكى أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه » المعنى يخوفكم قريش ومن معهم ، وذلك بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل ، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن جني{[3726]} عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه » فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان ، وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه » قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه » والضمير في قوله { فلا تخافوهم } لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان ، حقر الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم ، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره ، من الصبر والجلد ، ثم قرر بقوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.