قوله تعالى : { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } . وذلك أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه ، وقيل : إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت ، وجعلوا عليه رقيباً ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب ، فقتلوه ، وقيل غير ذلك كما ذكرنا في سورة آل عمران .
قوله تبارك وتعالى : { وإن الذين اختلفوا فيه } ، في قتله .
قوله تعالى : { لفي شك منه } ، أي : في قتله ، قال الكلبي : اختلافهم فيه هو أن اليهود قالت : نحن قتلناه ، وقالت طائفة من النصارى : نحن قتلناه ، وقالت طائفة منهم : ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء ، بل رفعه الله إلى السماء ، ونحن ننظر إليه ، وقيل : كان الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى عليه السلام ، على وجه صطيافوس ، ولم يلقه على جسده ، فاختلفوا فيه فقال بعضهم : قتلنا عيسى ، فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام ، وقال بعضهم : لم نقتله ، لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام ، فاختلفوا . قال السدي : اختلافهم من حيث إنهم قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ؟
قوله تعالى : { ما لهم به من علم } ، من حقيقة أنه قتل أو لم يقتل .
قوله تعالى : { إلا اتباع الظن } ، لكنهم يتبعون الظن في قتله .
قوله تعالى : { وما قتلوه يقيناً } ، أي : ما قتلوا عيسى يقيناً .
وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق . ومن قولهم : إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه ، والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل شُبِّه لهم غيره ، فقتلوا غيره وصلبوه .
وادعائهم أن قلوبهم غلف لا تفقه ما تقول لهم ولا تفهمه ، وبصدهم الناس عن سبيل الله ، فصدوهم عن الحق ، ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي . وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه .
فالذين فعلوا هذه الأفاعيل لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة الخصم المبطل ، وهو أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل ما جعله شبهة له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو من أقبح ما صدر منه ، ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس ، وأن له مقدمات يُجعل هذا معها .
وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم ، وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة من آمنوا به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها ، دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم يبسطها في هذا الموضع ، بل أشار إليها ، وأحال على مواضعها وقد بسطها في غير هذا الموضع في المحل اللائق ببسطها .
ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه ، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون : ( قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ) !
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها ، وتقرير الحق فيها :
( وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن شبه لهم ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ؛ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن . وما قتلوه يقينا . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيمًا ) . .
إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه ، قضية يخبط فيها اليهود - كما يخبط فيها النصارى بالظنون - فاليهود يقولون : إنهم قتلوه ويسخرون من قوله : إنه رسول الله ، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية ! والنصارى يقولون : إنه صلب ودفن ، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام . و " التاريخ " يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب !
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين . . فلقد تتابعت الأحداث سراعا ؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين . . إلا ما يقصه رب العالمين . .
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته . . كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح ؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد . . وقد كتبت معها أناجيل كثيرة . ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد ؛ واعتبرت رسمية ، واعترف بها ؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات !
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة : إنجيل برنابا . وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة ، في قصة القتل والصلب ، فيقول :
" ولما دنت الجنود مع يهوذا ، من المحل الذي كان فيه يسوع ، سمع يسوع دنو جم غفير . فلذلك انسحب إلى البيت خائفا . وكان الأحد عشر نياما . فلما رأى الخطر على عبده ، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل ، سفراءه . . أن يأخذوا يسوع من العالم . فجاء الملائكة الأطهار ، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب ، فحملوه ، ووضعوه في السماء الثالثة ، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد . . ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع . وكان التلاميذ كلهم نياما . فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع . حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع . أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم . لذلك تعجبنا وأجبنا : أنت يا سيدي معلمنا . أنسيتنا الآن ؟ . . إلخ " .
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة - التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر - ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية .
( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه . ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) .
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي بزعمه ويحتمل أنهم قالوه استهزاء ، ونظيره أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون وأن يكون استئنافا من الله سبحانه وتعالى بمدحه ، أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح . { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } روي ( أن رهطا من اليهود سبوه وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة ، فقام رجل منهم فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب . وقيل ( كان رجلا ينافقه فخرج ليدل عليه ، فألقى الله عليه شبهه فأخذ وصلب وقتل ) وقيل : ( دخل طيطانوس اليهودي بيتا كان هو فيه فلم يجده ، وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب . وأمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة ، وإنما ذمهم الله سبحانه وتعالى بما دل عليه الكلام من جراءتهم على الله سبحانه وتعالى ، وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات الباهرة ، وتبجحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم ، و{ شبه } مسند إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول أو في الأمر على قول من قال : لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس ، أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم قتيلا . { وإن الذين اختلفوا فيه } في شأن عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود : إنه كان كاذبا فقتلناه حقا وتردد آخرون فقال بعضهم : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وقال بعضهم : الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، وقال من سمع منه أن الله سبحانه وتعالى يرفعني إلى السماء : أنه رفع إلى السماء . وقال قوم : صلب الناسوت وصعد اللاهوت . { لفي شك منه } لفي تردد ، والشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد ، وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكده بقوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن ، ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فيتصل الاستثناء . { وما قتلوه يقينا } قتلا يقينا كما زعموه بقولهم { إنا قتلنا المسيح } ، أو متيقنين . وقيل معناه ما علموه يقينا كقول الشاعر :
كذاك تخبر عنها العالمات بها *** وقد قتلت بعلمي ذلكم يقينا
من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا أردت أن تبالغ في علمك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وبِقَوْلِهمْ أنّا قَتَلْنا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ"، ثم كذّبهم الله في قِيلهم، فقال: "وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبّهَ لَهُمْ": وما قتلوا عيسى وما صلبوه، ولكن شبّه لهم.
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شُبّه لليهود في أمر عيسى؛ فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم، وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعا حُوّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يُلْقَى على بعضهم شبهه، فانتدب لذلك رجل، فأُلقي عليه شبه، فَقُتل ذلك الرجل ورُفع عيسى ابن مريم عليه السلام. "وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكَ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلاّ اتّباعَ الظّنّ وَما قَتَلُوهُ يَقِينا": وَإنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ اليهود الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدّة من في البيت قبل دخولهم فيما ذكر فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدا منهم، فالتبس أمر عيسى عليهم بفقدهم واحدا من العدّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شكّ منهم في أمر عيسى. وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رُفع ودخل عليهم اليهود.
وأما تأويله على قول من قال: تفرّقوا عنه من الليل، فإنه: وإن الذين اختلفوا في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدّة التي كانت فيه أم لا؟ لفي شكّ منه، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه هل هو عيسى أم لا من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا: قتلنا عيسى، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جلّ ثناؤه: "ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ": أنهم قتلوا من قتلوه على شكّ منهم فيه واختلاف، هل هو عيسى أم غيره؟ من غير أن يكون لهم بمن قتلوه علم من هو، هو عيسى أم هو غيره "إلاّ اتّباعَ الظّنّ": ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم، فقتلوه ظنا منهم أنه عيسى وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به. "وَما قَتَلُوهُ يَقِينا": وما قتلوا هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى يقينا أنه عيسى، ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهة وهذا كقول الرجل للرجل: ما قتلت هذا الأمر علما وما قتلته يقينا، إذا تكلم فيه بالظنّ على غير يقين علم فالهاء في قوله: وَما قَتَلُوهُ عائدة على الظنّ.
عن ابن عباس، قوله: "وَما قَتَلُوهُ يَقِينا "قال: يعني: لم يقتلوا ظنهم يقينا.
عن السديّ: وَما قَتَلُوهُ يَقِينا: وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو عيسى، "بل رفعه الله إليه".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقولهم إنا قتلنا المسيح} قيل: سمي المسيح: يعني ماسحا لأنه كان يمسح المريض والأبرص والأكمة، فيبرأ، فسمي لذلك مسيحا وذلك الفعيل بمعنى الفاعل، والله أعلم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{وإن الذين اختلفوا فيه} أي في قتله وذلك أتهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه ألقي على وجهه ولم يلق على جسده شبه جسد عيسى فلما قتلوه ونظروا إليه قالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فاختلفوا فقال بعضهم هذا عيسى وقال بعضهم ليس بعيسى وهذا معنى قوله {لفي شك منه} أي من قتله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى عليه السلام، أعداء له، عامدين لقتله، يسمونه الساحر بن الساحرة، والفاعل بن الفاعلة، فكيف قالوا: (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)؟ قلت: قالوه على وجه الاستهزاء، كقول فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عما كانوا يذكرونه به وتعظيماً لما أرادوا بمثله كقوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [الزخرف: 9]
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على اختلاف الأزمان وتعاقب القرون، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فهذه الطائفة التي قالت {إنا قتلنا المسيح} غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: {عيسى ابن مريم} وقوله عز وجل: {رسول الله} إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل، ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى فكأنهم قتلوه، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول، كما أن قريشاً في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه، ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافاً شديداً... إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء، وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} أي وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل، والضراوة بارتكاب الجرائم، واستهزاء بآيات الله ورسله. ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام واستهزائهم بدعوته. وهو أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله تعالى مدعيا للرسالة كقوله في رواية إنجيل يوحنا (3:17 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) ويجوز أن يكون قوله: (رسول الله) منصوبا على المدح أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم.
{وما قتلوه وما صلبوه} أي الحال أنهم ما قتلوه كما زعموا تبجحا بالجريمة وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس {ولكن شبه لهم} أي وقع لهم الشبهة أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} أي وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره أي في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض. فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان-كما يقول المنطق- لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل. والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك، وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر...
وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين. فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول إنه هو، وبعضهم يقول إنه غيره، وما لأحد منها علم يقيني بذلك وإنما يتبعن الظن. وقوله تعالى: {إلا اتباع الظن} استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له ...
{وما قتلوه يقينا} أي وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح لأنه ألقى عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل إن الضمير في قوله تعالى: {وما قتلوه يقينا} للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن وما قتلوا العلم يقينا وتثبتا به بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها. يقال قتلت علما وخبرا-كما في الأساس- إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب... أي أنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحوارييه (أو تلاميذه) وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم أنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له. ولكن بعضهم قال أن شبهه ألقى على من دلهم عليه، وبعضهم قال بل ألقى شبهه على جميع ما كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أيدي مريدي قتله فقتلوا آخر ظانين أنه هو.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تبجحوا بأنهم قتلوا المسيح وصلبوه، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون: (قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله)!
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها، وتقرير الحق فيها:
(وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه؛ ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا. بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيمًا)..
إن قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط فيها اليهود -كما يخبط فيها النصارى بالظنون- فاليهود يقولون: إنهم قتلوه ويسخرون من قوله: إنه رسول الله، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية! والنصارى يقولون: إنه صلب ودفن، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام. و "التاريخ "يسكت عن مولد المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب!
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين.. فلقد تتابعت الأحداث سراعا؛ وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين.. إلا ما يقصه رب العالمين..
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته.. كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح؛ كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد.. وقد كتبت معها أناجيل كثيرة. ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد؛ واعتبرت رسمية، واعترف بها؛ لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات!
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة: إنجيل برنابا. وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة، في قصة القتل والصلب، فيقول:
" ولما دنت الجنود مع يهوذا، من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جم غفير. فلذلك انسحب إلى البيت خائفا. وكان الأحد عشر نياما. فلما رأى الخطر على عبده، أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل، سفراءه.. أن يأخذوا يسوع من العالم. فجاء الملائكة الأطهار، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب، فحملوه، ووضعوه في السماء الثالثة، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد.. ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع. وكان التلاميذ كلهم نياما. فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع. حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع. أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم. لذلك تعجبنا وأجبنا: أنت يا سيدي معلمنا. أنسيتنا الآن؟.. إلخ".
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة -التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر- ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية.
(وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن).
(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه: هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين.
والمسيح كان لَقباً لعيسى عليه السلام لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه: لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك، كما تقدّم في قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45)، وهو لقب قصدوا منه التهكّم، فصار لقباً له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم، قالت امرأة أبي لهب: مذمَّماً عصينا، وأمره أبينا. فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد.
وقوله: {رسول الله} إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصبُ {رسول الله} على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم {يَأيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون} [الحجر: 6] وقول أهل مدين لشعيب {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد} [هود: 87] فيكون نصب « رسول الله» على النعت للمسيح.
وقوله {وما قتلوه} الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكّدات: إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد.
وعطف {وما صلبوه} لأنّ الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه، وقال تعالى: {إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله... أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا} [المائدة: 33]. والمشهور في الاستعمال: أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.
وجملة {ولكن شبَّه لهم} استدراك، والمستدرك هو ما أفاده {وما قتلوه} من كون هذا القول لا شبهة فيه. وأنَّه اختلاق محض، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه.
وقوله: {شبّه لهم} يحتمل أن يكون معناه: أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله: {شبِّه} فعلاً مبْنيّاً للمجهول، مشتقّاً من الشبه، وهو المماثلة في الصورة. وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل (شبّه) للدلالة فعل (شبّه) عليه؛ فالتقدير: شبِّه مشبَّه فيكون « لهم» نائباً عن الفاعل. وضمير (لهم) على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا: {إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم} وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظنّ بكذا. والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال. ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خُيِّل إليك، واختُلِط على فلان. وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم، أي لتضليلهم، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم.
أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]. ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شُبّه معنى صُنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم.
والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن: أنّ المسيح لم يُقتل، ولا صُلب، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل. وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى: {إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ} في سورة آل عمران [55] وقوله: {وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه} يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح. والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه، بل يخالج أنفسهم الشكّ، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ. فالمراد بالظنّ هنا: معنى الشكّ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن {إنّ بعض الظنّ إثم} [الحجرات: 12]، وفي الحديث الصحيح: « إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث» فالاستثناء في قوله {إلاّ اتّباع الظنّ} مُنقطع...
يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله: {وما قتلوه وما صلبوه} ويجُوز أن يعطف على قوله: {مالهم به من علم}.
واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ، فهو اسمُ مصدر، والمصدر اليَقَن بِالتحريك، يقال: يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يُوقن إيقاناً، وهو الشائع.
وقوله {يقيناً} يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله: لأنّ مضمون: {وما قتلوه يقينا} بعد قوله: {وقولهم إنّا قتلنا المسيح} إلى قوله {وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم} يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون.
ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في {قتلوه}، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً، بقرينة قوله قبله {ومَا قتلوه وما صلبوه}، أي: هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته. وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم: قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها، وقولهم: قَتَل أرضاً عالِمُها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد يسأل السائل: لماذا ذكر نفي الصلب بعد نفي القتل مع أن نفي القتل يقتضي ألا يكون صلب، لأن الصلب لا يكون إلا لمقتول؟ والجواب عن ذلك أن هذا تأكيد في النفي ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صلب، فلابد من النص على نفي الصلب ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفي القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لا يكتفي فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفي الصلب فقط ما اقتضى نفي القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وقد تباهى هؤلاء الجناة وافتخروا بقتلهم الأنبياء، وزعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، تقول الآية: (وقولهم إِنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله...) ولعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة «رسول الله» استهزاء ونكاية، وقد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه ولم يصلبوه، بل صلبوا شخصاً شبيهاً بعيسى المسيح (عليه السلام)، وإِلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم...)
وأكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح (عليه السلام) كانوا هم أنفسهم في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن ويعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام والظن، تقول الآية: (وإِنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إِلا اتباع الظن...).
وقد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة ومقام المسيح (عليه السلام) حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابناً لله، ورفض البعض الآخر كاليهود كونه نبّياً، وإن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم.
وقد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح (عليه السلام) حيث قال البعض بأنّه قتل، وقال آخرون بأنّه لم يقتل، ولم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه.
أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح (عليه السلام)، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره...؟!
ويأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبداً، بل رفعه الله إِليه، والله هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: (وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً).