قوله تعالى : { فأوحى } أي : أوحى الله ، { إلى عبده ما أوحى } محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس في رواية عطاء ، والكلبي ، والحسن ، والربيع ، وابن زيد : معناه : أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه عز وجل . قال سعيد بن جبير : أوحى إليه : { ألم يجدك يتيماً فآوى }( الضحى-6 ) إلى قوله : { ورفعنا لك ذكرك }( الشرح-4 ) وقيل : أوحى إليه : إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوءة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه ، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم " فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] ، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه « جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه » إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته ، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله : « إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد » الحديث ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل ؟ قال عمر : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " . وقوله : { أو أدنى } { أو } فيه للتخيير في التقدير ، وهو مستعمل في التقريب ، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى ، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه .
وتفريع { فأوحى إلى عبده ما أوحى } على قوله : { فتدلى فكان قاب قوسين } المفرّع على المفرّع على قوله : { علمه شديد القوى } ، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له ، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبينّ لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً ، وهذه كيفية من صور الوحي .
وضمير { أوحى } عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله : { إن هو إلا وحي يوحى } كما تقدم ، والمعنى : فأوحى الله إلى عَبده محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كافٍ في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإِيحاء لإِبطال إنكارهم إياه .
وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان { عبده } إظهار في مقام الإِضمار في اختصاص الإِضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأوحى إلى عبده} محمد صلى الله عليه وسلم {ما أوحى}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: فأوحى الله إلى عبده محمد وحيه، وجعلوا قوله: "ما أوْحَى" بمعنى المصدر...
وقد يتوجه على هذا التأويل «ما» لوجهين:
أحدهما: أن تكون بمعنى «الذي»، فيكون معنى الكلام فأوحى إلى عبده الذي أوحاه إليه ربه.
والآخر: أن تكون بمعنى المصدر...
عن قتادة "فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى"، قال الحسن: جبريل.
حدثنا ابن حُمَيد، قال: حدثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع "فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى" قال: على لسان جبريل...
قال ابن زيد، في قوله: فأَوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أَوْحَى قال: أوحى جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أوحى الله إليه.
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: معنى ذلك: فأوحى جبريل "إلى عبده" محمد صلى الله عليه وسلم "ما أوحى" إليه ربه، لأن افتتاح الكلام جرى في أوّل السورة بالخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جبريل عليه السلام، وقوله: "فأوْحَى إلى عَبْدِهِ ما أوْحَى" فِي سِياقِ ذلكَ، ولم يأت ما يدلّ على انصراف الخبر عنهما، فيوجه ذلك إلى ما صرف إليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأوحى إلى عبده ما أوحى} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على التقديم والتأخير، أي فأوحى جبرائيل ما أوحي إليه إلى محمد عبده ورسوله عليه السلام.
والثاني: فأوحى الله، جل، وعلا، إلى عبده جبرائيل ما أوحى هو إلى محمد صلى الله عليه وسلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى عَبْدِهِ} إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عزّ وجل ذكر، لأنه لا يلبس.. {مَا أوحى} تفخيم للوحي الذي أوحي إليه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{مَا أَوْحَى} أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهي رؤية عن قرب بعد الترائي عن بعد. وهو وحي وتعليم ومشاهدة وتيقن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى}، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم "فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد " ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} [المزمل: 5]، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه « جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله: « إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته " يا عمر أتدري من السائل؟ قال عمر: الله ورسوله أعلم، قال: « فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". وقوله: {أو أدنى} {أو} فيه للتخيير في التقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه. وتفريع {فأوحى إلى عبده ما أوحى} على قوله: {فتدلى فكان قاب قوسين} المفرّع على المفرّع على قوله: {علمه شديد القوى}، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبينّ لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً، وهذه كيفية من صور الوحي. وضمير {أوحى} عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله: {إن هو إلا وحي يوحى} كما تقدم، والمعنى: فأوحى الله إلى عَبده محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كافٍ في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإِيحاء لإِبطال إنكارهم إياه. وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان {عبده} إظهار في مقام الإِضمار في اختصاص الإِضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ} أي عبد الله، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم)، {مَآ أَوْحَى} من القرآن بالمستوى الذي لا مجال فيه لأيّ شكَ أو شبهةٍ، لأن هذا المستوى من القرب لا يمكن أن يخدع العين، أو يُثير الريب في النفس...