قوله تعالى : { قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } ، هذا على طريق الوعيد والتهديد ، { إن الذين أوتوا العلم من قبله } ، قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب ، وهم الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلموا بعد مبعثه ، مثل : زيد بن عمر بن نفيل ، وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم . { إذا يتلى عليهم } يعني : القرآن { يخرون للأذقان } أي : يسقطون على الأذقان ، قال ابن عباس : أراد بها الوجوه ، { سجداً } .
وهنا يأمر الرسول [ ص ] أن يجبه القوم بهذا الحق ، ويدع لهم أن يختاروا طريقهم . إن شاءوا آمنوا بالقرآن وإن شاءوا لم يؤمنوا . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم . ويضع أمام أنظارهم نموذجا من تلقي الذين أوتوا العلم من قبله من اليهود والنصارى المؤمنين لهذا القرآن ، لعل لهم فيه قدوة وأسوة وهم الأميون الذين لم يؤتوا علما ولا كتابا :
( قل : آمنوا به أو لا تؤمنوا . إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ، ويقولون : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ؛ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) . .
وهو مشهد موح يلمس الوجدان . مشهد الذين أوتوا العلم من قبله ، وهم يسمعون القرآن ، فيخشعون ، و ( يخرون للأذقان سجدا ) إنهم لا يتمالكون أنفسهم ، فهم لا يسجدون ولكن ( يخرون للأذقان سجدا ) .
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم : { آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي : سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه ، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان{[17891]} في كتبه المنزلة على رسله ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ } أي : من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه ، ولم يبدلوه ولا حرفوه { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } هذا القرآن ، { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } جمع ذَقْن ، وهو أسفل الوجه { سُجَّدًا } أي : لله عز وجل ، شكرًا على ما أنعم به عليهم ، من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه [ هذا ]{[17892]} الكتاب . ولهذا يقولون : { سُبْحَانَ رَبِّنَا }
وقوله { قل آمنوا به } الآية تحقير للكفار ، وفي ضمنه ضرب من التوعد ، والمعنى أنكم لستم بحجة ، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم ، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم ، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة ، واختلف الناس في المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } ، فقالت فرقة : هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة : هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما .
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، وقرىء عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله ، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة ، وهذه صفته ، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح ، فنزلت الآية فيهم ، وقالت فرقة : المراد ب { الذين أوتوا العلم من قبله } محمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير في { قبله } عائد على القرآن حسب الضمير في { به } ، ويبين ذلك قوله { إذا يتلى } ، وقيل الضميران لمحمد . واستأنف ذكر القرآن في قوله { إذا يتلى } ، وقوله { للأذقان } أي لناحيتها ، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما ، وعليهما قال ابن عباس : المعنى للوجوه ، وقال الحسن : المعنى للحي ، و «الأذقان » أسافل الوجوه حيث يجتمع الَّلحيان ، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض ، لا سيما عند سجوده ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم . . . سباع من الطير العوادي وتنتف{[7730]}
استئناف خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليلقنه بما يقوله للمشركين الذين لم يؤمنوا بأن القرآن منزل من عند الله ، فإنه بعد أن أوضح لهم الدلائل على أن مثل ذلك القرآن لا يكون إلا منزلاً من عند الله من قوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] فعجزوا عن الإتيان بمثله ، ثم ببيان فضائل ما اشتمل عليه بقوله : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الإسراء : 89 ] ، ثم بالتعرض إلى ما اقترحوه من الإتيان بمعجزات أخر ، ثم بكشف شبهتهم التي يموهون بها امتناعهم من الإيمان برسالة بشَر ، وبَيّن لهم غلطهم أو مغالطتهم ، ثم بالأمر بإقامة الله شهيداً بينه وبينهم ، ثم بتهديدهم بعذاب الآخرة ، ثم بتمثيل حالهم مع رسولهم بحال فرعون وقومه مع موسى وما عُجل لهم من عذاب الدنيا بالاستئصال ، ثم بكشف شبهتهم في تنجيم القرآن ؛ أعقب ذلك بتفويض النظر في ترجيح الإيمان بصدق القرآن وعدم الإيمان بقوله : { آمنوا به أو لا تؤمنوا } للتسوية بين إيمانهم وعدمه عند الله تعالى . فالأمر في قوله : { آمنوا } للتسوية ، أي إن شئتم .
وجُزم { لا تؤمنوا } بالعطف على المجزوم . ومثله قوله في سورة الطور ( 16 ) { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } ، فحرف ( لا ) حرف نفي وليس حرف نهي ، ولا يقع مع الأمر المراد به التسوية إلا كذلك ، وهو كناية عن الإعراض عنهم وا حتقارهم وقلة المبالاة بهم ، ويندمج فيه مع ذلك تسلية الرسول .
وجملة { إن الذين أوتوا العلم } تعليل لمعنى التسوية بين إيمانهم به وعدمه أو تعليل لفعل { قل } ، أو لكليهما ، شأن العلل التي ترد بعد جُمل متعددة ، ولذلك فصلت . وموقع ( إن ) فيها موقع فاء التفريع ، أي إنما كان إيمانكم بالقرآن وعدمُه سواء لأنه مستغن عن إيمانكم به بإيمان الذين أوتوا العلم من قبل نزوله ، فهم أرجح منكم أحلاماً وأفضل مقاماً ، وهم الذين أوتوا العلم ، فإنهم إذا يسمعونه يؤمنون به ويزيدهم إيماناً بما في كتبهم من الوعد بالرسول الذي أنزل هذا عليه .
وفي هذا تعريض بأن الذين أعرضوا عن الإيمان بالقرآن جهلة وأهل جاهلية .
والمراد بالذين أوتوا العلم أمثالُ : ورقة بن نَوفل ، فقد تسامع أهل مكة بشهادته للنبيء صلى الله عليه وسلم ومن آمن بعد نزول هذه السورة من مِثل : عبد الله بن سلام ، ومعيقيب ، وسَلمان الفارسي .
وضمائر « به ، ومن قبله ، ويتلى » عائدة إلى القرآن . والكلام على حذف مضاف معلوم من المقام معهود الحذف ، أي آمنوا بصدقة . ومن قبل نزوله .
والخرور : سقوط الجسم . قال تعالى : { فخر عليهم السقف من فوقهم } ( النحل : 26 .
( وقد تقدم في قوله : { وخر موسى صعقاً } في سورة الأعراف ( 143 .
( واللام في للأذقان } بمعنى ( على ) كما في قوله تعالى : { وتله للجبين } [ الصافات : 103 ] ، وقول تأبط شراً :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[272]} *** صريعاً لليدين وللجران
وأصل هذه اللام أنها استعارة تبعية . استعير حرف الاختصاص لمعنى الاستعلاء للدلالة على مزيد التمكن كتمكن الشيء بما هو مختص به .
والأذقان : جمع الذَقَن بفتح الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين . وذكر الذقن للدلالة على تمكينهم الوجوه كلها من الأرض من قوة الرغبة في السجود لما فيه من استحضار الخضوع لله تعالى .
و{ سجداً } جمع ساجد ، وهو في موضع الحال من ضمير { يخرون } لبيان الغرض من هذا الخرور ، وسجودهم سجود تعظيم لله عند مشاهدة آية من دلائل علمه وصدق رسله وتحقيق وعده .