{ أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ولهذا قال هنا : { هم درجات عند الله } أي : كل هؤلاء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب تفاوتهم في أعمالهم .
فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات ، والمنازل والغرفات ، فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم ، والمتبعون لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين ، كل على حسب عمله ، والله تعالى بصير بأعمالهم ، لا يخفى عليه منها شيء ، بل قد علمها ، وأثبتها في اللوح المحفوظ ، ووكل ملائكته الأمناء الكرام ، أن يكتبوها ويحفظوها ، ويضبطونها .
ثم قال : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق : يعني : أهل الخير وأهل الشر درجات ، وقال أبو عبيدةَ والكسائي : منازل ، يعني : متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار ، كما قال تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } الآية [ الأنعام : 132 ] ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : وسَيُوفيهم إياها ، لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا ، بل يجازي كلا بعمله .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { هم درجات } من المراد بذلك ؟ فقال ابن إسحاق وغيره : المراد بذلك الجمعان المذكوران ، أهل الرضوان وأصحاب السخط ، أي لكل صنف منهم تباين في نفسه في منازل الجنة ، وفي أطباق النار أيضاً ، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره : إن المراد بقوله { هم } إنما هو لمتبعي الرضوان ، أي لهم درجات كريمة عند ربهم ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره «هم درجات » والدرجات المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة ، أو العذاب ، وقرأ إبراهيم النخعي «هم درجة » بالإفراد ، وباقي الآية وعيد ووعد .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: أن من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب الجزيل، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعقاب الأليم...
وقال آخرون: معنى ذلك لهم درجات عند الله، يعني: لمن اتبع رضوان الله منازل عند الله كريمة...
وقيل قوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} كقول القائل: هم طبقات... وأما قوله: {وَاللّهُ بِصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فإنه يعني: والله ذو علم بما يعمل أهل طاعته ومعصيته، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، يحصي على الفريقين جميعا أعمالهم، حتى توفى كل نفس منهم جزاء ما كسبت من خير وشرّ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: (والله بصير بما يعملون) معناه عليم. وفيه تحذير من أن يتكل على الإسرار في الأعمال ظنا بأن ذلك يخفى على الله، لأن أسرار العباد عند الله علانية. وفيه توثيق بأنه لا يضيع للعامل لربه شيء، لأنه لا يخفى عليه جميعه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي هم أصحاب درجات في حكم الله، فَمِنْ سعيدٍ مُقَرَّب، ومِنْ شَقِيٍّ مُبْعَد.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{والله بصير بما يعملون} فيه حث على الطاعة وتحذير عن المعصية.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والدرجات: المنازل بعضها أعلى من بعض في المسافة أو في التكرمة، أو العذاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله: {هم درجات} أي متباينون تباين الدرجات. ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال: {عند الله} أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال {بصير} أي بالبصر والعلم {بما يعملون} أي بعد إيجادهم، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره، وليس لهم فيه إلا نسبته إليهم بالكسب، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل! لم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدئ به الكلام من التوفية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يُقال اعتبارا بالصعود والدرك اعتبارا بالحدور. ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار. ولتصور الحدور في النار سميت هاوية. (قال) والدرك (بسكون الراء) أقصى قعر البحر، والمعنى أن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون هنا في العرفان والفضائل، في الجهل والرذائل، وما يترتب على ذلك أو يترتب عليه ذلك من الأعمال الحسنة والقبيحة. وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا من الرفيق الأعلى في الدرجات العلى الذي كان يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم من ربه في مرض موته، إلى الدرك الأسفل الذي ورد في سورة النساء، وذكر آنفا. وهي الدرجات لا تكون في الآخرة عطاء مؤتنفا وكيلا جزافا وإنما تكون أثرا طبيعيا لارتقاء الأرواح وتدليها هنا بالأعمال ولذلك قال بعد ذكرها (والله بصير بما يعملون) فهو لا يغيب عنه شيء من أعمالهم، وما لها من التأثير في تزكية نفوسهم، التي يترتب عليها الفلاح في ارتقاء الدرجات وفي تدسيتها التي تترتب عليها الخيبة في هبوط الدركات، (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [الشمس: 9-10] فتحصيل الدرجات إنما يكون في هذه الدار، والتمتع بها يكون في دار القرار، أما الدرجات في الدنيا فقد ورد فيها قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة بك خير مما يجمعون) [الزخرف: 32] وقوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم) [الأنعام 165] وليست هذه الدرجات بوسيلة ولا مقصد مما نحن فيه وإنما هي درجات ابتلاء وامتحان يظهر بها التفاوت بين أفراد الإنسان. وأما درجات الآخرة فهي المرادة بقوله تعالى بعد ذكر توسيع الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) [الإسراء: 21] وأما وسائلها التي قلنا إن هذه آثارها وهي المعارف والأعمال، فمنها قوله عز وجل: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: 11] وقوله: (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف: 76] وقوله سبحانه: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء) [الأنعام: 83] فهذه كلها درجات العلم والحجة، ومنها قوله في ربط درجات العمل بدرجات الجزاء (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة) [النساء: 95] ومنها بعد ذكر الجزاء (لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) [الأنعام: 142]. وقوله: (ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) [طه: 75. فحسبنا هذه الآيات مبينة لما قلناه من كون درجات الجزاء في الآخرة على حسب درجات الارتقاء بالعلم والعمل في الدنيا. وأن هذه الدرجات لا يمكن أن يعلمها إلا من أحاط بكل شيء علما، فلا يخفى عليه أثر ما من آثار الأعمال في النفس ولا عاطفة من عواطف الإيمان في القلب ولا حقيقة من حقائق العلم في العقل، ولا يعزب عنه شيء من تفاوت الناس في ذلك؛ فدرجات ارتقاء الأرواح لها في علمه تعالى نظام دقيق أدق من نظام ميزان الحرارة والبرودة ومن ميزان الرطوبة ومن ميزان ثقل السائلات في درجاتها العليا والسفلى. وما أشبه هذه الموازين بالموازين الطبيعية التي تعرف بها سنن الله تعالى في الكون، وإن سنته تعالى في نفوس الناس لا تقل عن سنته في غيرها نظاما واطرادا، وإن بين عليا الدرجات وسفلاها درجة أدنى أهل النار عقوبة، وأدنى أهل الجنة مثوبة، ولهذا كله قال بعد ذكر الدرجات إنه بصير بما يعملون. وليس عندي في الآية شيء عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلا ما تراه قريبا في تفسير الآية التالية وهي: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {عند الله} تشريف لمنازلهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الضمير في قوله تعالى: {هم درجات} يعود على الفريقين الذين اتبعوا رضوان الله تعالى، والذين اتبعوا سخطه سبحانه، وإطلاق "درجات "على الفريقين وفيهم الأشرار من قبيل التغليب، وهو تغليب له مغزاه؛ إذ هو تغليب الخير على الشر، وتغليب رضا الله على سخطه، وتغليب الأبرار على الفجار... قال سبحانه: {والله بصير بما يعملون} أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم عمل كل إنسان علم من يراه ويبصره، فلا يغيب عنه سبحانه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، وإنه سبحانه سيجزي كل نفس بما كسبت، على مقتضى علمه الكامل، وإن هذه الدرجات التي يضع الناس فيها هي بمقتضى علمه سبحانه.
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ} فالله هو العادل الذي ينظر لخلقه جميعا على أنهم خلقه، فلا يعادي أحدا، إنه يحكم القضية في هذه المسألة سواء أكانت لهم أم كانت عليهم، وبعد ذلك يردفها -سبحانه بقوله: {واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ليطمئن هؤلاء على أن الله بصير بما يعملون فلن يضيع عنده عمل حسن، ولن تهدر عنده سيئة بدرت منهم. {واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}. ونحن نسمع كلمة "يعمل "وكلمة "يفعل" وكلمة "يقول"، والعمل أهم الأحداث، لأن العمل هو تعلق الجارحة بما نيطت به، فالقلب جارحة عملها النية، واللسان جارحة عملها القول، والأذن جارحة وعملها الاستماع، والعين جارحة وعملها أن تنظر. إذن فكل جارحة من الجوارح لها حدث تنشئه لتؤدي مهمتها في الكائن الإنساني، إذن فكل أداءِ مُهِمّة من جارحة يقال له:"عمل". لكن "الفعل" هو تعلق كل جارحة غير اللسان بالحدث، أما تعلق اللسان فيكون قولا ومقابله فعل، إذن ففيه قول وفيه فعل وكلاهما "عمل" إذن فالعمل يشمل ويضم القول والفعل معا؛ لأن العمل هو شغل الجارحة بالحدث المطلوب منها، لكن الفعل هو: شغل جارحة غير اللسان بالعمل المطلوب منها، وشغل اللسان بمهمته يسمى: قولا ولا يسمى فعلاً، لماذا؟ لأن الإنسان يتكلم كثيرا، لكن أن يحمل نفسه على أن يعمل ما يتكلمه فهذه عملية أخرى، ولذلك يقول الحق: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] إذن فالقول مقابله الفعل، والكل عمل {واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} قولا أو فعلاً.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[واللّهُ بصيرٌ بما يعملون] فهو المطلع على سرّهم وعلانيتهم، وعلى كلّ ما يفيضون فيه من أقوال وأعمال، وفي هذا إيحاء بأنَّ على المؤمنين أن يتبعوا رضوان اللّه في جميع أمورهم ويتطلبوا الحصول على الدرجات الرفيعة عنده ما دام الأمر بهذه المثابة في انفتاح الفرصة على الوصول إلى أعلى الدرجات من خلال وعي العقيدة وحركة العمل وامتداد الخطّ في آفاق الاستقامة.
وهكذا يمكن أن يستوحي منها العاملون للإسلام خطّاً إيمانياً في تخطيطهم لحساب المسؤولية في ما يمكن أن يرفعوا به الآخرين من درجات أو يضعوه منها، فيمن يعملون معهم، فلا بُدَّ من أن تكون الدرجات خاضعة لمواقعهم في الانضباط أمام أوامر اللّه ونواهيه، بعيداً عن الجوانب الأخرى التي لا تلتقي بهذا الخطّ، وبهذا نستطيع أن نشجّع السائرين على الخطّ المستقيم في ما ساروا فيه، ونبعد المنحرفين عن الامتداد بعيداً عن خطّ الانحراف.