مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (163)

ثم قال تعالى : { هم درجات عند الله } وفيه مسائل .

المسألة الأولى : تقدير الكلام : لهم درجات عند الله ، إلا أنه حسن هذا الحذف ، لأن اختلاف أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها . فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون : إن النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية والحقيقة ، فبعضها ذكية وبعضها بليدة ، وبعضها مشرقة نورانية ، وبعضها كدرة ظلمانية ، وبعضها خيرة وبعضها نذلة ، واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الأمزجة البدنية ، بل لاختلاف ماهيات النفوس ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وقال : " الأرواح جنود مجندة " وإذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات ، لا أن لهم درجات .

المسألة الثانية : { هم } عائد إلى لفظ «من » في قوله : { أفمن اتبع رضوان الله } ولفظ «من » يفيد الجمع في المعنى ، فلهذا صح أن يكون قوله : { هم } عائدا إليه ، ونظيره قوله : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } فإن قوله : { يستوون } صيغة الجمع وهو عائد إلى «من » .

المسألة الثالثة : { هم } ضمير عائد إلى شيء قد تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله ، فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا إلى الأول ، أو إلى الثاني ، أو إليهما معا ، والاحتمالات ليست إلا هذه الثلاثة .

الوجه الأول : أن يكون عائدا إلى { من اتبع رضوان الله } وتقديره : أفمن اتبع رضوان الله سواء ، لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم ، والذي يدل على أن هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى ، وجوه : الأول : أن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب . الثاني : أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله ، وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير ، فوجب أن يكون قوله : { هم درجات } وصفا لمن اتبع رضوان الله . الثالث : أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فإن الله يضيفه إلى نفسه ، وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه ، قال تعالى : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقال : { كتب عليكم القصاص } { كتب عليكم الصيام } فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه حيث قال : { هم درجات عند الله } علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب . ورابعها : أنه متأكد بقوله تعالى : { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } .

والوجه الثاني : أن يكون قوله : { هم درجات } عائدا على { من باء بسخط من الله } والحجة أن الضمير عائد إلى الأقرب وهو قول الحسن ، قال : والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب ، وهو كقوله :

{ ولكل درجات مما عملوا } وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذي له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي » .

والوجه الثالث : أن يكون قوله : { هم } عائدا إلى الكل ، وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق ، لأنه تعالى قال : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب .

المسألة الرابعة : قوله : { عند الله } أي في حكم الله وعلمه ، فهو كما يقال : هذه المسألة عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا ، وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله : { ومن عنده لا يستكبرون } وقوله : { عند مليك مقتدر } .

ثم قال تعالى : { والله بصير بما يعملون } والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفي لكل أحد بقدر عمله جزاء ، وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان ، أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى ، وهو قوله : { والله بصير بما يعملون } وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله : { وما كان لنبى أن يغل } وجها آخر فقال : ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال : { أفمن اتبع رضوان الله } يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق ، وسخط الله على سخط الخلق ، { كمن باء بسخط من الله } فرجح سخط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخلق على رضوان الله ، ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال : { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر } بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خلاف الدين فإنه غير جائز ، فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته ، وبين من اتبع رضوان الخلق ، وهذا الذي ذكره محتمل ، لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية ، وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث .