اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (163)

{ هُمْ دَرَجَاتٌ } مبتدأ وخبر ، ولا بد من تأويل [ بالإخبار ]{[6166]} بالدرجات عن " هم " لأنها ليست إياهم ، فيجوز أن يكون جُعلُوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً ، والمعنى : أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم ، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه ، أي : هم مثل الدرجات في التفاوت .

ومنه قوله : [ الوافر ]

أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم *** رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ{[6167]}

ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف ، أي : هم ذوو درجات ، أي : أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل : لهم درجاتٌ - فحُذِفت اللامُ - وعلى هذا يكون " درجات " مبتدأ ، وما قبلها الخبرُ ، وردَّه بعضهم ، وقال : هذا من جهله وجهل متبوعيه - من المفسرين - بلسان العرب ، وقَالَ : لا مساغ لحذف اللام ألبتة ؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها ، وهنا المعنى واضحٌ ، مستقيم من غير تقدير حَذْف .

قال شهابُ الدينِ : " وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ ، والمخطئ معذورٌ ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا ، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار{[6168]} ، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ ؛ لأن هؤلاء - رضي الله عنهم - يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي " .

وقرأ{[6169]} النخعي " هم درجة " بالإفراد على الجنس .

قوله : { عِندَ اللَّهِ } فيه وجهان :

أحدهما : أن يتعلق ب " درجات " على المعنى ؛ لما تضمنت من معنى الفعل ، كأنه قيل : هم متفاضلون عند الله .

ثانيهما : أن يتعلق بمحذوف صفة ل " درجات " فيكون في محل رفع .

فصل

" هم " عائد إلى لفظ " من " في قوله : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ } ولفظ " من " معناه الجمع . ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً }

[ السجدة : 18 ] . ثم قال : " لا يستوون " بصيغة الجمع ، وهو عائد إلى " من " .

واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره ، والذي تقدّم ذكره نوعان : من اتبع رضوان الله ، ومن باء بسخطٍ من الله - يُحتمل أن يعودَ إلى الأول ، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني ، ويحتمل أن يعودَ إليهما ، فإن عاد إلى الأول صَحَّ - ويكون التقديرُ : إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم - لوجوه :

الأول : أن الغالب - في العُرْف - استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقابِ .

الثاني : أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 54 ] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه - حيث قال : " عند الله " - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى :

{ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] .

الثالث : أنه - تعالى - وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله - وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ - فوجب أن يكون قوله : " هم درجات " وصفاً لمَن اتبع رضوان الله .

وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب ، وهو قول الحسن ، قال : إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب ، كقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ }

[ الأحقاف : 19 ] وقال صلى الله عليه وسلم " إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً ، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ " .

وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذلك درجات أهل العقاب ، قال تعالى :

{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] . وقوله : " عَنْدَ اللهِ " أي : في حكم الله وعلمه ، كما يقال : هذه المسألة عند الشافعيّ كذا ، وعند أبي حنيفة كذا . ثم قال : { واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل .

فصل

ذكر محمدُ بن إسحاق - في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } - وجهاً آخر ، فقال : أي : ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم ، رغبةً أو رهبةً ، ثم قال : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ } يعني : رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق { كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ } فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله ، ورضوان الخَلْق على رضوان الله ؟

ووجه النَّظم - على هذا التقدير - أنه تعالى لما قال : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } [ آل عمران : 159 ] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين ، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ ، فكيف يُمكنُ التسويةُ بين مَن اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ ؟

قال ابنُ الخَطِيبِ : " وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل ، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية ، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة ، فهو عُرْفٌ حادِثٌ " .


[6166]:في أ: في الأخبار.
[6167]:البيت لابن هرمة ينظر ديوانه ص 181، والأزمنة والأمكنة 1/307، وخزانة الأدب 1/424، وشرح أبيات سيبويه 1/284، والكتاب 1/415، 416، ولسان العرب (درج). والدر المصون 2/250. استشهد به على نصب (درج السيول) على الظرفية، ووقع خبرا، لهم، والسيرافي يقول: إن سيبويه منع أن يقاس على "مناط الثريا" ونحوه مما استعملوه ظرفا غيره من الأماكن، نحو مربط الفرس إلا أن تظهر المكان، فتقول: هو من مكان مربط الفرس، فيجوز. ثم قال: "وقد ظهر أن سيبويه يجيز: زيد خلفك، إذا جعلته هو الخلف، ولم يشترط ضرورة شعر، وهو قول المازني، وكان الجرمي لا يجيزه إلا في ضرورة الشعر، والكوفيون يمنعونه أشد المنع" ومما استعمل قولهم: هو من درج السيل. أي مكان درج السيل من السيل، وكما في الشاهد الذي معنا على أن درج ظرف منصوب مع خبريته.
[6168]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/367) عن ابن عباس.
[6169]:انظر: المحرر الوجيز 1/537، والبحر المحيط 3/108، والدر المصون 2/250.